كان صديقي الأمريكي من أصول صومالية بانتظاري في سيارته اليابانية، لقد وصل للتوّ من عمله، يعمل في شركة إدارة مالية عابرة للقارات تتعدى إدارتها الخمسة والثلاثين مليار دولار (490 مليار جنيه مصري)، ويعمل بها مائتان وعشرون ألف موظف حول العالم.
مكتب هذه الشركة يقع في أجمل مكان في مدينة بوسطن، يطل على البحر والميناء الجميل، دخلت بقدمي اليمنى إلى سيارة صديقي لأجده في حالة من التعب والإرهاق، فسألته: ماذا بك؟ فأجاب: "أكثر من ثلاث عشرة ساعة على المكتب أمام شاشة الكومبيوتر في حديث مع أناس من ثلاث قارات مختلفة، لا يوجد وقت للراحة، حتى إن الغداء لم أستطعمه ونسيت ماذا أكلت: سمك أم دجاج؟ رز أم مكرونة؟ سؤال: أخلُقنا كي تكون هذه حياتنا؟ نعم، نعمل لنعيش ولكن هل نعيش لنعمل؟"، لمن يظن أن هذا السؤال بسيط، يجب أن تفكر مرة أخرى.
قبل لقائي بساعات مع صديقي كنت أجلس في محاضرة في حصة عن "البنوك الاستثمارية"، وكان أستاذي الأمريكي الخمسيني البدين ذو النظارة المثقف الأكاديمي يقول لنا: "لماذا يعد المال أهم شيء في الوجود؟ لأن المال يعطينا حرية، فمن دون مال نحن كالعبيد"، قد يظن الكثير من الناس أن هذا الأستاذ مولود ومكتوب بداخل جيناته الوراثية وعروقه، "حرية، حرية، حرية"، ولكن هل هذا صحيح؟
ما لا يعرفه الكثير من الناس أن صديقي وأستاذي ليسا فقط جزءاً من نظام، بل هما ترس في عجلة (Cog in the wheel) كالكثير منا. هذه العجلة منظمة وليست مسيّرة بشكل عشوائي، بل هناك أفكار تقود تجاهه، هناك نقطة انطلاق معروفة ونقطة وصول محددة.
الكثير من الناس ليس لديهم اختيار على أن يكونوا تروساً في هذه العجلة، ولكنهم مجبرون على أن يكونوا جزءاً منها.
هذا هو النظام العالمي القائم الآن، العجلة وهذا الترس هما في الحقيقة خليط من الأفكار والفلسفات السياسية، والأخلاقية، والدينية، والاجتماعية، والتاريخية والعلمية التي تشكل واقع المجتمع العالمي الذي نعيش فيه.
يقول المؤرخ سكوت مونتجمري (Scott Montogomerty) في كتابه: "الشكل الجديد: أربع أفكار وكيف صنعت العصر الحديث": إن العالم يعيش في مؤسسات وتحت أنظمة سياسية أنشئت وشكلت بأفكار بدأت في خيال أكبر مفكري العصر الحديث، ألا تؤثر هذه الأفكار على عقل ونفسية أي إنسان؟ فكيف أثرت على عقل ونفسية صديقي وأستاذي؟
للأسف في مجتمعاتنا أصبحنا لا نفهم تأثير المفكرين والفلاسفة والعلماء على تشكيل الوعي والعقل الجمعي، هؤلاء الإعلاميون الذين يقبعون على شاشات التلفاز لهم تأثير بالفعل، ولكن من أين جاءت أفكارهم؟ يقول الاقتصادي البريطاني الكبير، جون كينارد كينس (John Maynard Keynes) في كتابه The General Theory of Employment، Interest and Money:
"أفكار الاقتصاديين والفلاسفة السياسيين، سواء كانت حقاً، أو كانت خطأ، هي أكثر قوة مما يظن الجميع. في الواقع لا يحكم العالم شيئاً آخر. الرجال العمليون، الذين يعتقدون أنهم بعيدون تماماً عن أي تأثير فكري وفلسفي، هم عادة عبيد لأفكار اقتصادي قد مات وهم لا يشعرون.
مجانين السلطة، الذين يسمعون أصوات الجماهير في الهواء، هم في الحقيقة يشربون من أفكار الفلاسفة السياسيين الذين سبقوهم بعقود. أنا واثق من أن قوة المصالح الخاصة مبالغ فيها إلى حد كبير مقارنة مع زحف الأفكار التدريجي.. عاجلاً أم آجلاً، الأفكار، وليست المصالح الخاصة، هي التي ستنتصر وستشكل خطراً من أجل الخير أو الشر"، إن نظرنا للتاريخ الغربي أو الشرقي سنجد أن الفكرة دائماً تنتصر ولو بعد حين إن كان لها أتباع مؤمنون مخلصون، إحدى هذه الأفكار هي "الرأسمالية".
لا يستطيع الإنسان أن يتحدث عن العصر الحديث دون أن يتحدث عن الرأسمالية، ولا يبدأ الكلام عن الرأسمالية دون الكلام عن آدم سميث، ولا شك أن آدم سميث وأفكاره الرأسمالية لهم جذر تاريخي، أي أن هناك مفكرين وأفكاراً مهدوا الطريق إلى هذه الحقبة الزمنية بكل ما شكلت من أفكار.
يقول مونتغمري (Montogomerty) في كتابه: "لا يوجد مفكر عظيم يخرج ببرنامج فكري من قماش أبيض جديد، كان سميث له أسلاف وآباء فكريون هم فرانسيس هاتشيسون (Francis Hutcheson) وديفيد هيوم (David Hume)"، فكان الفلاسفة الاسكوتلنديون هيوم (Hume) وهاتشيسون (Hutcehson) لهم تأثير كبير على آدم سميث، فمن دونهم، لا يوجد آدم سميث.
إذاً لفهم تركيبة الرأسمالية يجب أن نفهم ديفيد هيوم وهاتشيسون.
إن شاء الله في الخاطرة القادمة سأكتب عن فرانسيس هاتشيسون (Francis Hutcheson) وديفيد هيوم (David Hume) لكي نمهد الطريق لفهم فكرة الرأسمالية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.