كان لقائي الفعلي والمتخيَّل الأول والأخير مع عاموس عوز في روايته: حكاية حُب وظلام. على صعيد العمل الأدبي، أعتقد أنها عمل إبداعي كان من الممكن أن يؤدي إلى ترشُّح الكاتب لجائزة نوبل في الآداب.
صديق إسرائيلي أمريكي يميني يدَّعي نبذه للصهيونية، كان قد رشح لي الكتاب عند صدوره. استغربت من ترشيح رواية لكاتب صهيوني، كان قد أيد العدوان على غزة، وشارك في حروب إسرائيل المختلفة، ودعا لتوسيع العمليات ضد لبنان إبان الحرب. في النهاية، مهما أخذ الإسرائيلي الصهيوني اتجاه اليسار، فإن الصهيونية لدى الإسرائيلي اليساري تتوِّج نفسها في أحسن أحوالها بكيان فلسطيني منفصل ومنعزل، وتعايُش مبنيّ على فكر عنصري بجدارة.
فكرت حينها، أن الإسرائيلي مهما ادَّعى نبذه الصهيونية، يبقى صهيونياً في صميم تركيبته.
قرأت الكتاب بالموازاة مع كتاب صدر في الوقت نفسه لـ "سري نسيبة"، فيما يشبه الرد على رواية عوز. كان كتاب "سري نسيبة" كالثلج على صدري في وقعه وردّه الذكي بوعي أو بلا وعي، أو ربما هكذا أردت قراءته: رحلة من يولَد بالقدس.
الوصف الصهيوني لأن تكون ابن المدينة يشكّل بالضبط قضيتنا مع الفكرة الصهيونية التي تصنع من "الحبّة قُبّة"، ومن الحرف روايات تاريخية. شعور يتخلل أرجاء المرء لدى القراءة، لا يمكن إلا أن تتعاطف به مع الكاتب، وتتماهى لوهلة مع جانبه من الحقيقة. حقيقة مهما تفنن الواحد منهم في تزيينها، فإنها تمتزج في فحواها بالدم الفلسطيني المسفوك وبترابه المنهوب.
تباينت الآراء والردود حينها على كتاب عوز، خصوصاً عندما أرسل نسخة من الكتاب إلى مروان البرغوثي في سجنه، طالباً منه القراءة؛ عساه يفهم القصة من الجانب الآخر.
عاموس عوز كاتب مرموق -بلا شك- في الساحة الأدبية. صهيوني حتى النخاع. اعتبره شمعون بيريس أحد ثلاثة من الممكن أن يخلفوه (إيهود باراك، وشلومو بن عامي).
وفاته قبل أيام شكَّلت تداعيات غريبة في الساحة الفلسطينية، من حزنٍ للبعض، ونحيب على شهيد سلام آخَر!
تداعيات اعتبرتُها في بادئ الأمر غير مهمة، فعادة الناس في بلادي النحيبُ والتهليل تباعاً بلا تفكير. وطبعاً، إذا ما كان هناك من الفلسطينيين من يعتبرون رابين وبيريس عرّابيَّي سلام، فمن الطبيعي أن يبكي هؤلاء وفاة عوز.
ولكن، يبدو أن عوز لم يكن مهماً فقط لدى مدّعي الثقافة والأدب في حزب السلام الفلسطيني، لأن الرئيس نفسه قدَّم تعازيه الحارة لذوي الميت، في رسالة ينقصها حضور الرئيس نفسه لتقديم واجب العزاء.
في الآونة الأخيرة، فقدت فلسطين أدباء وصحافيين مهمين، كان آخرهم بسام هلسة (على سبيل الذكر لا الحصر). الحقيقة أن هناك من هو مهمّ يُفقد دائماً في فلسطين. لماذا لم يلحظ الرئيس هذه الخسارات ولم يقدم واجب العزاء فيهم؟
يعجبني أمر الرئيس الذي يقوم بالواجب دائماً مع الإسرائيليين، كأنه يصر دائماً على أن يثبت لهم أنه من حزبهم. ولكنه لا يفهم أبداً أن اليهود أبداً لن يرضوا عنه!
ولكن بعيداً عن التهكم، هناك بالفعل ما هو منطقي بألم الرئيس على رحيل عاموس عوز، وفقدان معسكر السلام شخصاً مثله، في وقت تتعالى فيه العنصرية اليمينية بإسرائيل. فعاموس عوز وتياره -بلا شك- حمامة سلام بيضاء.
ما هو مقلق رجوعاً إلى تيار عوز للسلام، متمثلاً بحركة "السلام الآن" وتمسُّك الفلسطينيين -متمثلين بحزب الرئيس- بهم، مؤمنين بأنهم بالفعل أرباب سلام، أو ربما علينا الإذعان اليوم كفلسطينيين، أن هذا هو الحل الذي أراده كذلك أرباب القرار الفلسطيني منذ أوسلو.
أحياناً، تتداركني فكرة سذاجتنا، قيادةً وشعباً، بقبولنا أوسلو. كنت أتفهم حالة الحنين إلى العودة بعد اغتراب وتشرُّد بين دول الجوار والعالم. وأفهم كذلك كفلسطينية، وأتقبّل فكرة الخطأ والخطيئة ومغفرتها كمواطنة، يكون لمّ الشمل الفلسطيني كنتيجة هو العنوان.
ولكن لا أستطيع أن أفهم تمسُّك القيادة الفلسطينية بكل ما ترتب عن أوسلو. قد يذكر عاموس عوز الرئيسَ محمود عباس، بحالة من الحنينية إلى حلم بناه أشكال عاموس عوز مع أرباب القيادة الفلسطينية منذ أوسلو. ولكن ألم يعِ الحقيقةَ المأساويةَ، ولم ير بعدُ الوجه الحقيقي للصهيونية اليسارية في إسرائيل؟
بين كل التناقضات، يتزامن عزاء الرئيس المكتوبُ إلى عائلة الصهيوني الفقيد مع انطلاقة فتح.
من جهة، لا تتوقف بيانات فتح "بالطلقة الأولى" والبطولات المجيدة والشهداء الأبرار من حركة فتح في هذه المناسبة. ومن جهة، تختار الرئاسة هذا اليوم لتقوم بواجب العزاء عليه. لا نعرف إن كانت هناك وفود باسم القيادة ذهبت لتقديم واجب العزاء بكيبوتس خلدا، الذي أُقيم على أنقاض تهجير قرية (قرية خلدا قضاء الرملة. أُقيمت على أنقاضها مستعمرات مشمار دافيد وتل شاخر)، وقتل أهلها في السادس من أبريل/نيسان سنة 1948، حيث اختار عوز العيش فيه، لأن تل أبيب حينها لم تكن راديكالية بما يكفي لما يؤمن به.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.