"الصحافة الحرة تقول للحاكم ما يريده الشعب، وليس أن تقول للشعب ما يريده الحاكم"، يقولها مصطفى أمين واصفاً الصحافة، بينما يصفها أوسكار وايلد: "يحكم الرئيس لأربع سنوات، بينما تحكم الصحافة إلى الأبد".
لا تبدو تلك الكلمات مناسبة للواقع الصحافي في مصر حالياً، الذي لو كان له أن يتحدث لصرخ، فأربع أزمات تحيط به، تجعله على السطح يبدو وكأنه يواكب التغييرات التي تمر بها الدولة، بينما الحقيقة الغائبة هي أن أعماقه تعاني من الغليان الصامت.
التخوين وانتشار "المكارثية"
التخوين والاتهامات بالعمالة وأحياناً بالأخونة هو ما صار يواجهه الصحافي ممن قرر السباحة ضد التيار والكتابة بشكل مختلف، أو حتى انتقاد أداء بعض المسؤولين، وهو ما ظهر بشكل كبير في منع مقالات لكتُاب كان القارئ متعوداً على القراءة لهم.
الاختلاف الوحيد هو أن الاتهامات لا تنطق بها الدولة بل صحافيون آخرون قرروا أن من يخرج عن النص الصحافي المكتوب لكل الصحافيين المصريين فلن يكون نصيبه سوى كلمتي "التخوين والأخونة"، حتى لو قيلت لكُتاب يسارين، ما أعاد للأذهان عصر المكارثية التي ظهرت في الولايات المتحدة الأميركية 1950.
ناصرية بلا ناصر.. عصر (الصوت الواحد)
حرية الصحافة في عهد مبارك كانت أعلى مما هي عليه الآن، لا يوجد فخر في ذلك، بل إن حرية الصحافة في عهد السادات أعلى أيضاً من الآن، ولكن بالمقارنة بحرية الصحافة في عهد عبدالناصر فإنها تتساوى معه.
ناصرية بلا ناصر تلخص عمليات إغلاق ومصادرة للصحف بشكل ينافي مبادئ الدستور نفسه، ويبدو أنها تحدث بشكل عشوائي، ولكن الحقيقة ليست كذلك فهي تعبر عن سيادة الصوت الواحد ومن يعترضه فعليه أن يتوقع الجزاء.
فجريدة التحرير التي تم إغلاقها كان السبب المعلن هو أزمة مالية، لكن السبب الخفي الذي يتردد بشكل غير معلن فهو ارتفاع سقف نقد الجريدة للدولة بشكل عام والذي ظهر بوضوح في عدد من الملفات مثل "الإعلام والرئيس مين يقدر على الكلام"، وملف آخر عن المعتقلين، أما مقال "كيف تصبح طفلاً للرئيس في 9 خطوات"، فكان السبب في مصادرة أحد أعداد جريدة الصباح، أما المصادرة والفرم فكان مصير عدد "صوت الأمة " الذي تناول موضوعاً عن زيارة الرئيس لوالدته في مستشفى الجلاء.. مسلسل الإغلاق مازال مستمراً فهو يهدد عدداً من الصحف الأخرى -الخاصة- التي مازالت تحاول التغلب على شبح توقفها.
"ناصرية بلا ناصر" تبدو ظاهرة أيضاً في التشابه بين عهد عبدالناصر الذي لجأ فيه إلى تأميم الصحف وإلغاء الأحزاب وإيقاف الصحف الناطقة باسمها وبالتالي سيطرة الدولة على الصحافة، وبين العصر الحالي، فكل الصحف -حتى لو كانت خاصة- يتم التحكم في طبعها من خلال مؤسسة واحدة هي مؤسسة الأهرام للطباعة والتوزيع، وهي المؤسسة الخاضعة للدولة.
"…you know too much "أنت تعرف أكثر مما يجب"
أحد مشاهد فيلم "طير أنت" الذي يظهر فيه أحمد مكي مقلداً للعبقري محمود مرسي في فيلم "شيء من الخوف" وهو يقوم بقتل أحد رجاله، وعندما يندهش الرجل من رغبة مكي في قتله وهو يعتبر ذراعه اليمنى يخبره بالإنكليزية "you know too much"- الترجمة بالعربية "أنت تعرف أكثر مما ينبغي"، عبقرية المشهد تبدو أنها قابلة للتطبيق على المشهد الصحافي فمن يعرف أكثر أو يحاول يتم إبعاده عن المشهد الصحافي.
فمعظم الإعلاميين الذين عاصروا ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث حتى 30 يونيو، اختفوا تدريجياً من المشهد، الذي بدا وكأنه يظلم تدريجياً مع إيقاف كل برنامج تلفزيوني، أو حتى جريدة، أو عمود صحافي، ولم يقتصر الأمر فقط على الإعلاميين التلفزيونيين الكبار أو رؤساء بعض الصحف، بل شمل صغار الصحافيين، فخطر إغلاق الصحف يُهدد مستقبلهم بل ويهدد استمرار عملهم في الصحافة.
الخوف من اختفاء الصف الأول من الإعلاميين والصحافيين، حتى لو كانوا صغاراً في السن ممن عاصروا الثورة بأحداثها خلال الأربع سنوات الماضية، ليس فقط سببه فكرة تقييد الحريات، بل سببه ضياع ذاكرة الثورة تدريجياً، وضياع الحقيقة وسط حالة من التشوش والتعتيم الذي تعاني منه صناعة الإعلام التي أصبحت شبيهة بصناعة الخوف.
وأخيراً.. القانون
فرغم الرقابة الذاتية التي تفرضها الصحف على نفسها قهرياً، ورغم الرقابة التي تمارسها الجهات السيادية والتي رصدتها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان في ورقة بحثية بعنوان "تليفون من جهة سيادية – عن حجب ومصادرة الصحف المصرية بعد الدستور"، وسجلت 14 واقعة حجب ووقف طباعة ومنع توزيع ومصادرة منذ تطبيق الدستور الحالي إلا أن ذلك لم يبدُ كافياً، فظهر مشروع قانون "مكافحة الإرهاب" الجديد ومشروع القانون الموحد لـ"تنظيم الصحافة والإعلام"، أما القانون الأول فيتضمن مواد عقابية قد تصل إلى حد المنع ممارسة المهنة، بينما قانون تنظيم الصحافة والإعلام ففضلاً عن تقيد حرية الصحافي فهو يعتدي على سلطات نقابة الصحافيين.
ملحوظة مصطفى أمين -مؤسس جريدة أخبار اليوم- وصاحب مقولة "الصحافة الحرة تقول للشعب ما يريده"، ظل محبوساً خلال عهد عبدالناصر لمدة 9 سنوات كاملة بتهمة "التخابر لصالح أمريكا"، حتى أفرج عنه صحياً
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.