يا هذا الدم المتواري عن أعين الكاميرات وحبر الملاحم وعن تصاوير الحقيقة كيف للحبر أن ينصفك فهل للحبر حديث في حضرة الدم.. يا هذه الخيمة الأبدية التغريب بين فيافي الأرض وذهول الحطام ورماد الوتد، ضاع تاريخ البداية فأين النهاية وكلاهما توأم لروح التاريخ من أين تسرب الدم الأول وخط سطرا للمجزرة فالتاريخ اللاجئ يعيد نفسه بنفس المقصلة ونفس البندقية وأن تغير شكلها وتاريخ صنعها أو ماركتها المسجلة طبقا للدولة المصدرة.
ولكن للرصاص القاتل نفس المدى المجدي سواء أطلق رشا أو دراكا فذلك يتناسب مع سرعة أو بطيء رحيل الضحية منذ عقود سرمدية الامتداد تتنفس الخيمة الصعداء تحت هطول المنفى واضطراب الجو بالريح الرمادية، فكلما اشرقت شمس هبت رياح عكسية تثير زوبعة الغبار وتكدس التجاعيد أكثر في وجوه القابعين على عتبات المخيم ينشدون الانتظار وأمل العودة. يا لهذا البعد الثلاثي بين السماء والأرض وأوتاد الخيمة كلما صعدت قافلة للشهداء إلى سدرة المنتهى تبتسم السماء فتتكور الارض وتبكي غاضبة فتعيد للخيمة من جديد اغترابها الحزين لكأنما الصراع تجلى كونيا حين تدخل الخيمة ساحة معركة أو يسيل من زقاقها دما وحنين وغصة. للخيمة القابعة في كل شتات الأرض ومنافيها نفس الرواية مع اختلاف بسيط في تفاصيل صغيرة يعرفها اللاجئون جدا ولكن للخيمة الواقفة على ربوع دمشق حكاية تآخي بين ياسمينة وبرتقالة.
مخيم اليرموك المطل كجبل قاسيون على دمشق من منظوره الخاص رافعا جبينه يعانق الشمس ويكتب للأصيل نشيدا ورواية كل مساء تشرق شمسه هاتفة للحياة والعمل وتخط على جدران أزقته وصية العودة كل صباح. لليرموك وقفة كرمل على شاطئ حيفا يصر على الذاكرة ويأبى النسيان يعاني من التهاب مزمن في ذاكرة العودة ويتناول جرعات نضاله كل دقيقة ويحكي للأطفال وكل الأجيال تاريخ بلاد الفردوس قبيل النكبة بدقائق ثم تبكي عيناه كمرقد قاسيون المقدس على أولى لحظات النكبة فصار تقويمه السنوي منذ زمان يترخ باليوم والشهر والسنة بعد النكبة تقويم لا يفهمه إلا أولئك القابضون على جمر العودة. تقرأ في أجندته السنوية تاريخ رصاص النكبة تلك التي انتثرت شظاياها كمجزرة في كل حي وقرية ومدينة تتنقل بين أزقته فترى فلسطين كما هي حاضرة تبدأ من شارع الفدائية وتنتهي بمقبرة شهداء الثورة وما بينهما برزخ للمدن والقرى الفلسطينية هكذا سجل اليرموك انتماؤه الأزلي للأوركيد والدحنون ولم يرض الغدر كعادته وهو الذي ارتوى من ماء الزهر الدمشقي فسار يحمل بين راحتيه تاريخ لجوء جديد جراء رصاص الغدر المنهمر من بنادق الطغيان الأسدي فاتسعت الخيمة مجددا للاجئين والمهجرين من كل أطراف سوريا وتقاسم الخبز والقهوة وحكاية الحنين مع اشقاءه الجدد يعلمهم تقويم النكبة وتقويم الهجرة ووصايا البرتقال المخضب بطعم الياسمين فصار ايقونة للأمل والحرية.
لم يكن المخيم أغلى من حماة أو درعا أو القصير أو حلب بل كان امتدادا للمجزرة حين توعده أرييل شارون ذات تصريح في ثمانينيات القرن المنصرم ولكن كان للبندقية الفلسطينية آنذاك صدى أقوى ربما من صدى المدفعية فتم تأجيل المذبحة إلى أجل مسمى. واليوم دارت الأرض دورتها الكونية واجتمع كل طغاتها وشذاذ آفاقها حول عامود الخيمة ينهشون من لحم نزلائها ويدقون أوتادها بكل ما أوتيت جيوشهم من رصاص ومدفعية وطائرات وطنية الصنع وحليفة وصديقة وعدوة تصر بكل حقد على إزالة وجه النكبة الفاضح للغدر الكوني على الكنعاني المغدور.
يقف المخيم اليوم شاهدا على نكبتين وحكاية بين رصاصتين عادت بالذاكرة من جديد إلى جمهورية التنك في تل الزعتر وشواطئ المخيم في نهر البارد وحرب المخيمات.. ذاكرة كرست من جديد حرب الأخوة الأعداء إن صح التعبير ورصاص فلسطيني يقتل أخاه في القضية وشقيقه في النكبة تارة تحت مسمى الدين والظفر بحوريات السماء وتارة تحت مسمى القومية وحق فلسطين ومحور يتماهى كذبا ويتستر دجلا خلف شعار المقاومة والممانعة هذا المحمور الذي منع الخبز والماء والحياة عن اوتاد الخيمة فطالما سمعنا إن الإنسان لا يموت من جوعه ولكنه مات في أزقة اليرموك جوعا وعطشا وقتلا وتعذيبا.
يكتب المخيم اليوم تاريخ الجريمة الأولى وذاكرة قابيل وهابيل يرتل بانين سمفونية الرحيل الأخير نحو المجهول وغياهب الضباب على بعد كيلومترات من مقر السفارة الفلسطينية ومنظمة التحرير المدعية أنها الممثل الشرعي والوحيد لفلسطين. يا لهذه المصادفة الغريبة بين تل الزعتر واليرموك نفس المسافة الفاصلة بين خيامهما ومقر القيادة الفلسطينية ونفس القوى المنفذة للمجزرة ففي تل الزعتر كان اسمها القوات الانعزالية وفي اليرموك تغير الاسم إلى الجهات الأمنية المختصة وفي كلا الحالتين كانت فلسطين الضحية.
من فرط بالخيمة فرط بفلسطين
الخيمة هي قرآن الثورة وفاتحة الفكرة
وصراط الوطن المستقيم
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.