النسبية تغزو حياتنا
إن نظرية النسبية التي تعلمَّناها في المدارس والجامعات لا تقتصر على ظواهر الفيزياء فقط، وإنما تغزو كلَّ مجالات حياتنا. فكل ما حولنا في هذه الحياة هو نسبي، فالجمال والقبح، الذكاء والغباء، القوة والضعف، السيادة والعبودية، المعرفة والجهل، والسعادة والضنك، وحتى القيم الإنسانية والمُثل كلها نسبية، وباختصار فإن كل ما هو ضمن حدود إدراكنا البشري المتواضع يعتبر نسبياً.
فعلى سبيل المثال مفهوم السعادة في نظر الناس نسبي، فربما تكون لأحدهم في الحصول على المال والثروة، وبالنسبة للآخر في المركز والجاه، ولثالث في راحة البال أو الصحة، ولرابع في العيش مع مَن يحب، وهناك من يرى أن قمة السعادة في المعاناة التي يتكبَّدها ليصل إلى نجاح أو إبداع كالأديب والفنان والعالم. حتى أعمارنا كبشر يعتبرها البعض نسبية، تُحسب بمقدار إحساسنا بما فيها من سعادة وجمال وانسجام وتفاعل مع المحيط والأفكار، وليست بمقدار ما نحياه من أيام وسنوات.
الإطلاق في المفهوم لا بالتطبيق
صحيح أنه في المفهوم الإسلامي القيم ثابتة ومُطْلقَة، لا تتغير بتغير الزمان أو المكان، أو باختلاف الظروف والأشخاص، ولكن النسبية التي نقصدها ليست بالمفاهيم بحد ذاتها، وإنما في تطبيقها على الواقع. فيمكننا القول إن القيم والأخلاق مطلقة في أهدافها، نسبية ومتغيرة في تطبيقها. فليس هناك في هذه الحياة قِيم ولا صفات مُطلقة.
فليس هناك عدل مطلق، لا في شخص ولا في جماعة ولا في بلد. وليست هناك حيادية مطلقة، لا في باحث ولا في رب أسرة ولا في مؤسسة إعلامية. وليست هناك نزاهة مطلقة، لا في مسؤول ولا في حكومة ولا في دولة. وليست هناك أمانة مطلقة، لا في تاجر ولا في شركة ولا في مجتمع. وليست هناك مهنية مطلقة، لا في موظف ولا في مستشار ولا في مؤسسة. وأخيراً لا وجود لحرية مطلقة، لا في الشرق ولا في الغرب، لا في القول ولا في الفعل.
المثالية ليست واقعاً
كل هذه القيم ستراها في الدنيا نسبية، وتختلف من جهة لأخرى، فلا تتعب نفسك بالبحث عن المثالية المطلقة. قطعاً لن تجدها على وجه الأرض. فمَن منا يستطيع أن يكون نزيهاً أو حيادياً 100% في حياته ومعاملاته! لا أعتقد بوجود إنسان يتمتع بصفات خالصة، فهي طبيعتنا كبشر، خُلقنا من تراب، وليس فينا ملائكة، فنحن مزيج من الخير والشر، المهم ألا تكون الغلبة للشر دائماً، وأن يكون لدى الإنسان القدرة على ضبط الشر الذي يكمن بداخله ولا يظهره، حتى إن تعرَّض للاستفزاز أو للظلم.
الحكم النسبي لا القطعي
ولأن عالمنا يفيض بالاختلافات والتناقضات، لذا فالحكم بالمطلق القطعي لن يجلب لك إلا مزيداً من الشقاء والتعاسة، أما النظر والحكم بالنسبي فسيجلب لك الراحة والرضا، ويجعلك أكثر منطقية وواقعية وانسجاماً مع محيطك.
لذلك عندما تقيّم شخصاً أو جهة ما، أو يُطلب منك أن تشكّل موقفاً من مؤسسة أو جماعة، فإنه من العدل أن تكون متوازناً وشاملاً في نظرتك وتقييمك، فتذكر كل جوانبها الإيجابية والسلبية، وتحاول أن تستحضر مقدار قربها أو بعدها عن تلك القيمة أو الصفة.
ولا يعقل أبداً أن نسوّي بين مَن يطبق العدل والأمانة والنزاهة بشكل كبير ويجتهد -ولكن تغلب أهواؤه ومصالحه أحياناً فتزلّ قدمه قليلاً- بذاك الظالم والمنافق والمنحاز، ونضعهم جميعاً في كفة واحدة!
أعلم أن الأمر ليس سهلاً، فكلنا نميل إلى تغليب آرائنا (وأحياناً مصالحنا وأهوائنا)، ومهما حاولنا أن ننحي عواطفنا ومشاعرنا وذواتنا جانباً فإنها ستكشفنا يوماً، وستُفصح عن مكامن الشر بداخلنا، ليس أقلّها الحسد والغيرة تجاه الآخرين.
أحكامنا تتغير مع الزمن
هناك نسبية أخرى مطلوبة، تتمثّل في إطلاق الأحكام، ونظرتنا للظواهر والأفكار، فما كان مألوفاً ومقبولاً في أزمنة ومجتمعات معينة أصبح محظوراً ومرفوضاً أو مستهجناً في أزمنة ومجتمعات لاحقة، فظاهرة العبيد التي كانت طبيعية ومقبولة وجزءاً من النسيج المجتمعي في عصور سابقة، وحتى في عصر النبوة، أصبحت غير مقبولة على الإطلاق في أيامنا هذه، ومن جميع الديانات، ووفقاً لكل القوانين.
إن البشر لم يتفقوا يوماً ولن يتفقوا في الحكم على الأشياء والأفكار، ذاك أن منطلقاتهم الدينية والفكرية والثقافية وظروف البيئة مختلفة ومتنوعة، لذا فمعايير ومقاييس الأحكام لن تتشابه، وعليه سيظل الاختلاف هو سيد الموقف. وصدق الله إذ قال "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.