سوف یظلّ السِّجال ساخناً والخلاف محتدماً علی حقبة تاریخیة لماضٍ ومستقبل من الجدل حول شخصیة جمال عبد الناصر وکأنه لم یمت ومازال یتمشَّى فوق جسور النیل، وما زال هنا یسأل عن مصر، ومَن في مصر، أو رحل أمس.
لا نرید خلط الأوراق لرجل له ما له وعليه ما علیه، لیس نبیاً ولا رسولاً، لماض ذهب عن الأمة بریقه.
لقد انتهى وانتهت معه ثورة یولیو/تموز، کمشروع وتجربة سوف یحکم علیها المٶرخون الذین یکتبون التاریخ للمنتصر کما قال تشرشل. لم یتعرَّض رٸیس لحملة تشویه بعد وفاته کما تعرَّض هذا الرجل من الداخل والخارج، من قوى کثیرة لها مصالحها الأیديولوجیه، وجماعات رجعیة ورأسمالیه متوحشه، ومخابراتیة، لإلصاق کل التهم، وآخرها عرض فیلم "الملاك" لکاتب إسراٸیلي، الأسبوع الماضي.
كفانا إذن حديثاً عن مزايانا ومناقبنا، فهي مؤكدة ومقرَّرة، وهي كفيلة بنفسها، ولْنركّز من الآن، لننظر إلى عيوبنا في عيون المتربصین بالأمة، في مواجهة وشجاعة، لا لننسحق بها، ولكن لنسحقها، لا لنسيء إلى أنفسنا، ولكن لنطهّر أنفسنا من الحقد الدفین والکراهیة.
ماذا تریدون؟ اذهبوا إلی أسوان، واهدموا السد العالي، واهدموا ما تبقَّی من مباني الإصلاح الزراعي، وأعلنوا في مزاد عمّا تبقَّی من قطاع عام لحل الأزمة الاقتصادیة، حتي یتم طمس عبدالناصر، الذي ینزعج الکثیر من اسمه.
لقد کان حاضراً في انتفاضة الخبز عام 1977، وفي میدان التحریر رُفعت صوره في الربیع العربي بطریقة عفویة، ولا أرید الخروج عن سیاق الموضوع. بعد عودته من حرب فلسطين، وحصوله على دبلومة أركان حرب في العام 1951، وكان بحثه بها في الجغرافيا السياسية لبوابة مصر الشرقية فلسطين، وأبعاد الأمن القومي وخطة الجنرال اللنبي في غزو فلسطين، وقد تميز في الفكر الاستراتيجى، وأصبح مدرساً له بالكلية، مما أكسب جمال عبدالناصر رؤية استراتيجية جيدة للأحداث السياسية التي تمر بها مصر في أحلك ظروف توليه مسؤولية قيادتها، وسط عالم يموج بالصراعات والتناحر بين قطبين من القوى العظمى، والسير في طريق الاستقلال الوطني.
دوائر ناصر الاستراتيجية
الدائرة الأولى هي العالم العربي، والدائرة الثانية القارة الإفريقية، والدائرة الثالثة الأوسع العالم الإسلامي، فالاهتمام بهذه الدوائر ناتج عن فهم كبير، مستمد من علم الجغرافيا السياسية، استمده عبدالناصر كمدرس لعلم الاستراتيجي بكلية أركان الحرب، وطبَّقه بعد ذلك في السياسة، بعد أن أصبح رئيساً لمصر، وزعيماً للأمة العربية كلها، ومدافعاً عن الثوار والحركات الثورية بالعالم، ضد الاستعمار والاستغلال والإمبريالية العالمية، فكوّن كثيراً من الروابط السياسية والشعبية في نطاق الدوائر السياسية الثلاث، كمنظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة عدم الانحياز، ومشاركته الفاعلة في إنشاء هذه المنظمات في دوائر الاهتمام الثلاث، مما أكسبه شعبية ليست محلية أو إقليمية فقط، بل أصبحت شعبيته عالمية، لدعمه المتواصل للحركات الثورية في العالم كله ضد الاستعمار، كأحد أهم دروس الجغرافيا السياسية أيضاً، لأن الاستعمار كخيوط العنكبوت، عليك أن تقطع كل خيوطه المحيطة بك حتى لا تلتفّ عليك ثانیة.
فكثر منتقدوه لعدم وعيهم الكافي بالجغرافيا السياسية، والفكر الاستراتيجي، فهناك مَن انتقد قراره الجريء بتأميم قناة السويس، وبناءه السد العالي.
فيقول مَن تعلمنا منه علم الجغرافیا السیاسیة، جمال حمدان، في ذلك: تبدو مصر من منظور جغرافي استراتيجي قد نقص وزن موقعها بشدة، ومن منظور اقتصادي تقلصت قيمة موضعها، وهكذا أصبحت بلا حول ولا قوة؛ لأنها فقدت القدرة على الخيال والحكم، لتشتري الموقع بالموضع، كما فعل جمال عبدالناصر.
واشترى بقناة السويس السد العالي، فعوض بعضاً من خسارة الموقع ببعض القوة في الموضع. إن مصر المستقلة لم تبدأ إلا منذ ارتفع فيها الموضع إلى مستوى الموقع، فعليها دائماً أن تعمّق موضعها وتكثفه؛ لكى يظل ذات كفاءة لموقعها الحاسم.
مات آخر من حکم مصر، کان أجنبیاً أو مصریاً بالجغرافیا، وهو عبدالناصر، وآخر من حوّل الجغرافیا السیاسیة إلی واقع في الشرق الأوسط هو هنري کسنجر، عن طریق الصراع العربي الإسراٸیلي.
وللأسف، المفکرون الحقیقیون في عالمنا العربي قلة، وکل مفکر مثقف، ولکن لیس کل مثقف مفکراً، کما أن کل مثقف متعلم، ولکن لیس کل متعلم مثقفاً.
مات عبدالناصر، وقدر مصر أن تظل سیرته أطول من حیاته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.