الكثير من الناس يحب الشتاء ويتغنى بجمال لياليه، ومدى روعة التمشي تحت أمطاره، وأنا هنا على العكس منهم -وليس جرياً على قاعدة خالف تعرف- لا أحب الشتاء أبداً، وأرى أنه فصل مزعج أتمنى أن يمر بأسرع ما يكون.
لا أنكر أن سبب كراهيتي لفصل الشتاء لها أصول نفسية، قد ترتبط بذكرياتي عن قيود الدراسة والمذاكرة، والاستيقاظ المبكر والوقوف في الطابور المدرسي الممل في عز البرد، وارتباط الصيف بالإجازة الصيفية الطويلة الجميلة العامرة باللعب، والتي كنت أشعر فيها بالحرية بعيداً عن مسؤوليات الدراسة المرهقة، من واجبات وامتحانات شهرية وسنوية.
ولكن صدقني إذا كنت لا تزال تقرأ المقال فستجد أن فكرتي عن الشتاء تحمل الكثير من المنطق، ولها أسباب تتعدى بكثير تلك الرواسب النفسية التي حدثتك عنها في الفقرة السابقة.
فقد ترسخت لديّ فكرة الانزعاج من الشتاء أيام الجامعة عندما تطوعت في إحدى الجمعيات الخيرية التي تقدم المساعدات للفقراء، وأتيحت لي فرصة الدخول إلى بيوت بعض المحتاجين لتقييم حالتهم المادية ومدى احتياجهم للمساعدة.
ومن الحالات التي لا أنساها أن سيدة تقدمت بطلب إلى الجمعية ذكرت فيه أنها أمٌّ لطفلين وزوجها قعيد الفراش نتيجة إصابته بمرض صدري على ما أذكر، وكان اللافت في هذا الطلب أن عنوان هذه السيدة في حي متوسط الحال، المهم ذهبت أنا وزميل لي إلى عنوان هذه السيدة فدخلنا منزلاً متوسط الحال وصعدنا إلى شقتها، وكانت المفاجأة أن هذه السيدة تعيش هي وزوجها المريض وطفلاهما الصغيران على البلاط حرفياً، وكانت الأسرة كلها تنام على كرتون فرشوه على البلاط، ويتغطون ببطانية واحدة، كنا وقتها في شهر يناير، فسألتها كيف تتحملون البرد فقالت لي: "ربنا بيعين، وبعدين أنا بشغل البابور"، وحكت لنا أنها باعت كل شيء للحصول على الطعام والعلاج لزوجها القعيد.
أذكر جيداً أن زميلي كان سيغمى عليه من البكاء بعدما نزلنا من عند هذه الأسرة المنكوبة، وكان يقول بأسى: كم أسرة مثل هذه تختفي وراء جدران هذه البيوت، ونحن لا نشعر بما يعانونه؟ وكيف تمضي هذه الأسر ليالي الشتاء الباردة.
ومع الأيام اكتشفت وجود آلاف الأسر التي تعيش في بيوت بلا أسقف في الأرياف، وعندما تمطر السماء فإن مياه الأمطار توقظهم من النوم بعد أن تكون قد أغرقت أسرَّتهم.
أهلنا في الريف يقولون إن "الصيف حصيرته واسعة" فهو لا يحتاج تجهيزات خاصة بعكس الشتاء الذي يحتاج إلى سقف متين، وملابس ثقيلة وغطاء أثقل، ناهيك عن الطعام الساخن، حتى الاستحمام في الشتاء يحتاج إلى استعداد خاص.
وأنا بالطبع هنا يا صديقي لا أريد أن أجعلك من عشاق الصيف أو الربيع، أو أن أسعّر حرباً بين عشاق الشتاء وكارهيه، كل ما أردته أن يتفقد كل واحد فينا الدائرة التي تحيط به من الجيران والمعارف، وأن يحاول معرفة ظروفهم ومساعدتهم في بداية فصل الشتاء.
علينا قبل أن ننام ملء جفوننا ونحن تحت الغطاء الثقيل والأسقف ووراء الشبابيك المحكمة، وبعد أن نشكر ربنا على نعمة السقف الجيد، والفراش الوثير، والطعام الساخن، تلك النعم التي أصبحنا لا نستشعر قيمتها؛ لأنها أصبحت من المسلمات المألوفة بالنسبة إلينا، أن نتأكد بقدر الإمكان، أننا قد بذلنا أقصى ما في وسعنا لكي لا ينام أحد نستطيع مساعدته وهو يرتجف من البرد.
بطانية، تعني الكثير لأسرة معدمة، وجبة ساخنة لجارك الفقير المتعفف تساعد جداً في ليالي الشتاء القاسية، معاونة فقير على عمل سقف لمنزله قد تكون سبباً في وقايته هو وأبنائه من المرض، ودعنا نتذكر هنا حديث رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه: "لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ"، رواه مسلم.
علينا ونحن نستمتع بالدفء أن نستشعر معاناة اللاجئين الذين يحاربون الصقيع بخيامهم الضعيفة، والأسرى الذين يجردون من ثيابهم عمداً في هذا البرد الشديد، وأن نسعى بقدر إمكاننا إلى مساعدتهم، فالأيام دُول ولا تدري أتستمر النعمة التي نتمرغ فيها اليوم أم نُحرم منها لأننا لم نؤدِّ شكرها.
درّبوا أبناءكم على هذه القيم حتى لا يصابوا بمرض إلف النعمة، عرّفوهم أن لكل نعمة شكر، وربُّوهم على الشعور بمعاناة الغير حتى تفرحوا بازدهار إنسانيتهم أمام أعينكم.
وأسأل الله أن يرحم كل لاجئ وأسير وفقير من شر زمهرير الشتاء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.