من مميزات القراءة في التاريخ أنها تمنح العقل فرصة سانحة للتمتع بالسفر في الزمن، فتفسح المجال للعقل ليرى الإنسان آفاقاً بعيدة، ينتابه من خلالها شعورٌ بالدهشة والإثارة عند مقارنة الأحوال الحالية بالماضية، وقد ينتابه شعورٌ بالفخر والاعتزاز بالنقاط المضيئة من تاريخ بلاده، مع الشعور بالألم أيضاً لفوات فرص ضيعها قادة بلاده، أو هزائم خاضوها، أو تخاذل بدا عليهم فاستباح العدو البلاد، فلا يكون من هذه الآلام سوى استيفاء العِبر وتجنب الأخطاء والحذر من الوقوع فيها.
لكن في النهاية يغلب على السفر في الزمن أو قراءة التاريخ نوعٌ من المتعة التي تقترن بمشقة السفر، إلا القراءة في قصة التتار فيغلب عليها الرعب والهلع لدرجة أن من يطلع عليها قد يجف ريقه ويتعكر مزاجه إن لم يبكِ من هول أحداثها وما فيه من مبالغات، قد يصعب على العقل تصورها؛ لكنها وقعت بالفعل!
لقد كان أول ظهور لقوة دولة التتار أو المغول في منغوليا بالصين عام (603هـ-1206م)، وكان أول قادة هذه الدولة جنكيز خان، الذي كان سفاحاً سفاكاً للدماء على نحو وحشي لا ينازعه في الوحشية أحد على مدى التاريخ كما يقول المؤرخون؛ لكن سرعان ما توسعت هذه الدولة وانتشرت كالنارِ في الهشيم، فتمددت دولة التتار في غضون سنة واحدة (617هـ-1220م) حتى بلغت حدودُها كوريا شرقاً إلى حدود الدولة الخوارزمية (آسيا الوسطى وغرب إيران) غرباً، ومن سهول سيبيريا شمالاً إلى بحر الصين جنوباً، ثم بدأت بالتوسع غرباً فأوسعت البلاد قتلاً وتخريباً ودماراً على نحو بشع ومرعب، لدرجة أن الناس ظنت أنها قيام الساعة، كما ورد في كتاب "الكامل في التاريخ" لابن الأثير، إذ قال: "فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً".
وقد قال ابن الأثير أيضاً: "فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحداً إنما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض، وأحسنه وأكثره عمارة وأهلاً، وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة في نحو سنة".
وأبرز ما يتسم به التتار أنهم كانوا لا يلتزمون بأية مواثيق أخلاقية غير أنهم بشر وليسوا ببشر، فهم أناس بلا قلوب، فكان القتل والتخريب والهمجية منهاجهم الوحيد في حروبهم، فكان يسهل عليهم دخول مدينة من المدن فيدمرونها بأكملها، ويقتلون سكانها بالكامل، من دون التفرقة بين رجل وامرأة، ولا بين صغير وكبير، ولا بين مدني وعسكري، فلم يقصدوا سوى الإبادة الجماعية، وكانوا يتسمون بطبيعة دموية يفوقون بها الحيوانات الشرسة، وكأن غايتهم التخريب والتدمير وليس إتيان المُلك والمال. فقد وسعوا العالم سفكاً للدماء ونهباً للأموال بلا رحمة وبقلوبٍ كالحجارة بل هي أشد قسوة والعياذ بالله.
فمن بشاعة التتار أنهم عندما وصلوا إلى تركستان كانوا يتقاتلون في إحدى معاركهم بالسكاكين، وجرى الدم على الأرض حتى صارت الخيل تنزلق من كثرته، حيت قُتل في هذه المعركة عشرون ألفاً من المسلمين، واجتاحوا مدينة بخارى فقضوا على أهلها جميعاً بدمٍ بارد منزوع الرحمة. وقد أورد ابن الأثير في وصول التتار إلى أذربيجان "أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم.. فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة، حتى إنهم يشقون بطون الحبالى ويقتلون الأجنة".
ولما اجتاح التتار بلاد الكُرج، أو ما يُعرف بجمهورية جورجيا الآن، قتلوا من سكانها نحو ثلاثين ألفاً.
وعند وصولهم شرق القوقاز التي تحيطها أسوارٌ جمعوا جثث القتلى وألقوا بعضها فوق بعض ليصعدوا عليها.
وقد وصلوا إلى روسيا وقتلوا الآلاف المؤلفة من أهلها، ومروا على إقليم خراسان (إيران وأفغانستان)، وحاصروا مدينة مرو، وكان يوماً مشهوداً من كثرة الصراخ والعويل، وكان الناس يموتون من شدة الضرب، وأمر قائدهم بقتل أهل البلد كافة، وأمر بإحصاء القتلى فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل، ولما وصلوا إلى نيسابور قطعوا رؤوس أهلها.
واجتاح هولاكو قائد التتار بغداد عام (656هـ-1251م) واستباحها حتى سقطت فقتل جيوش التتار الكثير من علماء المسلمين بطريقة وحشية مفجعة، فكان يُمدَّد الرجل على الأرض فيُذبح كالشاة أمام أولاده ونسائه، ثم يقتلون النساء والأطفال والرضع، فوصل عدد القتلى في بغداد إلى مليون مسلم. وأصدر هولاكو بعد كل هذه المجازر أمراً بإيقاف القتل لا لشيء سوى الخوف من حدوث وباء من أثر تعفن التلال من الجثث فيودي بالجميع.
فضلاً عن ارتكابهم جريمة أقل ما يُقال عنها إنها أبشع الجرائم في حق الإنسانية، فقد دمروا مكتبة بغداد -منارة العلم بلا منازع وقتها- فحملوا آلاف الكتب من المكتبة وألقوها في نهر دجلة، حتى صار لون مياهه أسود من حبر الكتب، فكان الفارس التتري يعبر فوق الكتب من الضفة إلى الضفة.
وبعدما سقطت بغداد اتجه التتار صوب الشام وحاصروا مدينة ميَّافارقين الواقعة بين نهري دجلة والفرات، واستباحوها تماماً فقتلوا سكانها جميعاً فيما عدا أمير البلاد الكامل محمد الأيوبي، الذي لم يخضع لقوتهم أو يستسلم، بل كان يحث الناس على الجهاد ومقاومة التتار، فاعتقلوه وذهبوا به إلى قائدهم هولاكو الذي استحضر أعلى درجات الوحشية وتفنن فيها، عندما صلبه ثم أخذ يقطع أطرافه وهو حي، بل أجبره أن يأكل من لحمه.
ثم اجتاحوا حلب ودمشق، ولما سمع الملك المظفر سيف الدين قطز سلطان مصر سار إليهم وقاتلهم على أرض فلسطين في موقعة عين جالوت عام (658هــ-1260م) فجعل الله على يديه نصرة الإسلام، كما يقول ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية".
وفي الواقع بعدما اطلعت على قصة دولة التتار في التاريخ وما بها من أهوال ومجازر، حاولت محو اسم التتار من ذاكرتي فلا أقتربه من بعيد أو قريب في استخداماتي وتشبيهاتي، بل أصبحت أرجو مَن يشبه أي فعل همجي بالتتار، أو أي عنف أو اجتياح، سواء من قبيل السخرية أو الواقعية ألا يستخدم هذا التشبيه، وأقول له: "ربما لو اطلعت على سيرة التتار في التاريخ لاتفقت معي في الرأي".
غير أنني عندما سمعت بمقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي بهذه الطريقة الوحشية لم أتردد في وصف من ارتكبوا هذه الجريمة بأنهم أشبه بالتتار، لكنهم تتار محدثون استعانوا بوسائل التكنولوجيا الحديثة، التي من المفترض أنها لخدمة الإنسان لا لقتله واستباحته، فهم مجردون من الإحساس كالتتار بأن خططوا لطريقة القتل هذه، ولهم قلوب كالحجارة بل أشد قسوة، بأن قطعوا جسده قطعاً صغيرة يمكن حملها في حقائب شخصية، ليُظهروا وحشية فاقت وحشية أشرس الحيوانات، وبدوا بلا قلب أو أدنى إحساس حين أفنوا جسده، ليؤكدوا أنهم بشر وليسوا ببشر.
رحم الله خاشقجي رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته، وجزى كل من وراء هذه الجريمة الوحشية ما يستحق من الله. فأجسادنا كلها فانية، ولن يضر ما يُفعل بها بعد صعود الروح إلى بارئها؛ لكن تبقى وحشية من تجرأ على حرمات الله مَعَرَّةً له في الدنيا والآخرة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.