الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي لاعب أساسي، وإذا تميز بصورة معينة فتلك كانت صورة "الثعلب" المخاتل، والذي يحذق المشي بين الحبال. إذا تمعنا في مسيرته السياسية لاحظنا منذ بدايتها الرغبة الجامحة في التموقع للمحامي الشاب الذي كلفه بورقيبة بمهام أمنية استشارية ثم تنفيذية؛ انتهت به بداية الستينيات للمساهمة في إرساء جهازي القمع التعذيب بصفته كاتب الدولة للداخلية. إذ لم يكن في آخر الخمسينيات مثل الشاب أحمد بن صالح المثقف والقادم من التجربة النضالية للاتحاد العام التونسي للشغل، والذي تصدر مواقع وزارية مدنية في حكومة الاستقلال قبل صراعه الشهير مع بورقيبة نهاية الستينيات.
السبسي الذي يمشي على الحبال قرر في الأشهر الأخيرة الانزياح تدريجياً من راعي "التوافق" إلى جانب رئيس حركة النهضة؛ إلى موقع التهديد باستئصال النهضة عبر تحالفات اقليمية ومحلية. من الواضح أنه يطمح في استنساخ تجربة 2014، والاستقطاب القوي الذي دفع به إلى السلطة، لكن هل أن سياق تلك الانتخابات هو سياق انتخابات 2019؟ وبهذا المعنى: هل يلعب بنار ربما تحرقه؟ هنا تكمن المسألة.
مما لا شك فيه، أن التفاهمات بين "الشيخين" السبسي والغنوشي قبل 2014 لم تكن شديدة الوضوح ودقيقة في برمجتها لأفقها السياسي. ويجب الإقرار بأن السبسي قرر أن يذهب مع موجة الديمقراطية؛ ليس فقط لأنها جعلته أولاً رئاسة وبرلماناً، ومن ثم أذاقته معنى الشرعية عبر انتخابات حقيقية وليس انتخابات مزورة، كما تعود طيلة عشريات طويلة من الاستبداد، ومن ثم استفادة من كانوا في الماضي من الغنيمة الديمقراطية في الحاضر والمستقبل. بل أيضاً الميل نحو قطب دولي- إقليمي يتقاطع في استقرار التجربة التونسية في إطار ديمقراطية الحد الأدنى.
كانت صيغة "التوافق" أساساً صيغة ترقيعية لتفادي الأسوأ، أي الاستئصال المتبادل في شارع سياسي تونس يأبى التورط في العنف، لكنها أيضاً بدت منذ البداية صيغة "توافق" مختل التوازن؛ فيه الطرف الأول انتخابياً (السبسي وحزبه) مسيطر على المواقع الرئاسية الثلاثة، والنهضة المتمركزة في البرلمان بكتلة ثانية في الترتيب لا غير. اختيارات السبسي المختلة أعادت تدريجياً التوازن لصالح النهضة: اختيار رؤساء حكومة طيعين في البدء والضغط عليهم إلى حد تحولهم إلى محايدين (الصيد) أو منافسين (الشاهد)، مع مراهنته (بتأثير من زوجته على الأرجح) على ابنه لقيادة الحزب، في مقابل رفض رئيسي الحكومة الخضوع لطلبات السبسي الابن أو تلقي تعليمات تخص مسائل حساسة، وبما يتجاوز صلاحيات رئيس الحزب الأكبر برلمانياً.
وهكذا، عندما رفضت النهضة "مرمطة" حليفها الجديد في القصبة، قرر السبسي تحويلها إلى وجهة استبدادية. وإذ أرسى قواعد التقارب مع السعودية منذ فترة في إطار ما سمي بـ"الحلف الإسلامي" لشرعنة "حملة دولية" ضد اليمن، فإن الحرب على اليمن فشلت وتحولت إلى مجرد حرب إبادة ضد أطفال اليمن. وفي وسط ذلك، كان مضي السبسي منذ 2016 على التموقع سياسياً إلى جانب الرياض، في تنافر مع التقارب الواضح للسبسي بعد الانتخابات مع كل من قطر وتركيا، وهو الذي طالما انتقد ذلك بداعي الوطنية. وهكذا، انتقل السبسي من الرعاية الإماراتية- السعودية قبل 2014 نحو الرعاية القطرية- التركية بعدها، وبرز ذلك في مؤتمرات تمويل دولية ولجان مشتركة بدت أكثر نشاطاً بكثير من العلاقة مع الرياض وأبو ظبي.
كان ذلك مجرد مثال بسيط على استعداد السبسي للتشقلب من أجل أن يتموقع وأن يكون منفرداً. إذ بعد أن مولت الإمارات سيارته المصفحة علناً، وعلى الأرجح حملته الانتخابية سراً، قرر بعد الانتخابات السعي لاكتساب الرضى القطري- التركي. غير أنه، وبمجرد رفض النهضة عرض السبسي للانقلاب على رئيس حكومته وقريبه، الشاهد، بدت تدريجياً نية السبسي تتجه نحو التالي: إعادة بناء حلف معاد للنهضة من أجل تهميشها واستبعادها (حتى مؤقتاً) من الساحة السياسية، يدعمه في ذلك قسم من اليسار الراديكالي في سياق استعادة التركيز على الاغتيال السياسي وإعادة توظيفه لحملة تخويف ضد النهضة.
وهكذا أصبح السبسي مختصاً في استثارة أجواء الاستعداء؛ من حيث زياراته ومن يقبل من ضيوفه. ومن الطبيعي أن نتذكر هنا هذه المعطيات، إذ تشجع الأجواء الراهنة على التركيز على النهضة كطرف معاد. ومن الواضح أن السبسي يقوم هنا بتوظيف ملف الاغتيالات فقط لهذا الهدف. وهنا تأتي مناورات ما تبقى من حزبه الذي يترأسه ابنه للتشويش على المسار، بحجة وجود انقلاب يدبره الشاهد (حليف النهضة)، وتفاصيل أخرى منها عزم حزب النداء معارضة تمويل الدولة لصندوق الكرامة لتعويض ضحايا الاستبداد، عندما تتم مناقشة الميزانية في الأيام الأخيرة.
والأسوأ من معارضة صندوق الكرامة الذي يتم تمويله أساساً عبر هبة من ميزانية دولة أخرى، هو الادعاء بأن المعارضة منبثقة من الحرص على العائلات المعوزة. يأتي هذا الموقف من عصابة اعتدت (من موقع الحكم وعبر قوانين الميزانية المتعاقبة لسنوات) على الطبقة الفقيرة والمتوسطة على حد سواء.. من عصابة احترفت الرشوة عوض الفساد، كما قال رئيس الكتلة البرلمانية لحزب السبسي الابن، بما أثار موجة سخرية واسعة.
لكن ما هي صلاحيات السبسي الفعلية لكي يقوم بفرض شروطه؟ في آخر اجتماع لمجلس الأمن القومي الذي ترأسه، وبعد طول انتظار لإمكانية تناول موضوع "الجهاز السري" للنهضة، انتهى السبسي للتموقع في موقع الضحية، وليس كمن يملك زمام المبادرة، ورمي الكرة في ساحة المحاكم، كأنه مجرد مراقب ومحلل للشأن السياسي.. وهنا سيكون ضحية لألاعيبه، ورهينة لضيق الأفق لبعض اليسار الراديكالي الذي يحتمي به. واستمعنا جميعاً هذا الأسبوع إلى تصريح للسيدة بسمة الخلفاوي، أرملة الشهيد بلعيد، تقول فيه إنها أبلغت السبسي في لقاء خاص بأن "الناس تخفي وتخزن السكر والسميد خوفاً من حرب أهلية؛ لأن النهضة عندها السلاح".
أتفهم طلبات هيئة الدفاع، خاصة التحقيق في موضوع الجهاز السري الذي تمت متابعته قضائياً أواخر سنة 2013، وأعتقد أن على النهضة التوقف عن إنكار تشكيلها لتنظيم خاص في فترات سابقة. وبالمناسبة، ثلاثة أرباع الأطراف السياسية كانت تحلم بانتفاضة مسلحة زمن الاستبداد، خاصة في السبعينيات والثمانينيات، ولو استطاعت لشكلت تنظيماتها الخاصة، فذلك تقليد موجود في التنظيمات السرية يميناً ويساراً. لكن ما تقوم به السيدة بلعيد يرتقي إلى التحريض على الاقتتال الداخلي، بترويج إشاعات وأوهام.
إذا وجد احتقان بين المواطنين فهو حول مستواهم المعيشي ومقدرتهم الشرائية، ومن المؤسف أن تزييف الوعي الاجتماعي مثلما يأتي من اليمين، يمكن أيضاً أن يأتي من بعض اليسار.
أما السبسي، فسيخرج من الباب الصغير هذه المرة، ليس لأنه ليس لديه الوسائل التي يمكن عبرها تحقيق رغباته وسياساته، ولكن أيضاً لأن الوقت غير الوقت.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.