احتوت أبجديات أخلاقنا السامية بسمو ديننا الإسلامي، بالإضافة إلى أسس عادات وتقاليد وأعراف مجتمعاتنا، على آداب الحوار ومبادئ الخطاب فردياً أو جماعياً.
حيث كان الحديث عنه حاضراً كأساس معاملة، ودوام علاقة، وحُسْن تربية، وكثيرٍ من الجمال والإيجابية.
حتى القوانين الوضعية لم تبخل في الحديث والتطرق له، فالناظر إلى عادات البلدان المختلفة من حولنا يجد ذلك الأمر ملموساً، لكن يختلف الوضع في التطبيق والفاعلية.
فحين تجد أن سَمْتَ الأغلبية بات قائماً على تجاهل تلك الآداب المتفق عليها دينياً وعرفياً، فالناظرُ للحال العام يرى المقصد ويفهم المغزى، وصدقاً يتساءل: أين ذهب إتيكيت الحوار؟ ولمَ سيطر خطاب الكراهية ؟ ولمَ بات العُلُو في الصوت سيطرة وتحكّماً لدى الكثيرين؟ وما هي خلاصة الأمر؟ وإلى أين يسير بنا انجراف الأخلاق هذا؟
"ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" هذا خطاب المولى عزّ وجل لسيد البشرية ومعلم الأخلاق الأول في الكينونة، يعلمه فيه السماحة واللين وطيب القلب الذي هو مدعاة للتقارب والتآلف والاجتماع، والخطاب لنا جميعاً مسلمين وغير ذلك؛ كون النبي محمد صلى الله عليه وسلم أُرسل للناس كافة بغض النظر عن ديانتهم، فالتطبيق يَلْزَم الجميع.
وكان لنا الحكيم لقمان خير ناصح وموجه عندما وجه ابنه بتوجيهات هدفها البناء والرفعة والتي كان من بينها غضاضة الصوت، فالحمير هي من تملك أعلى الأصوات رغم أن ذلك لم يُعْلِ من شأنها شيئاً.
جلّ هذه النصائح جاءت في الحديث عن علوّ الصوت وقسوته، فكيف إن كان الصوت مرتفعاً ومصحوباً بالألفاظ النابية ومليئاً بالكراهية، ويحمل تحريضاً هدفه الإفساد والفتنة وإثارة البلبلة؟!
إنه لأمرٌ شائن أن يكون هذا طبيعة ما نتفوَّه ونلفظ من أفواهنا، رُغم أن دائرة تأثيرنا محدودة مقارنة بغيرنا ممن لهم جمهور وأتباع.
لذا يولد السؤال: كيف إذا كان هذا الحال شأن كبار القوم وعليته -ممن يحسبون أنفسهم كذلك- فالعلو هو علو الأخلاق والآداب؟!
مثلاً عندما تسمع خطاباً لأحد زعماء الدول تجده لا يخلو من التحريض والجعجعة والألفاظ التي يرفضها بروتوكول السياسة وإتيكيت دبلوماسية الحوار، قطعاً إنها غابة الكبار التي أصبحت مجالاً للمنافسة، فكلما ارتفع الصوت، وزادت نسبة التحريض ارتقى الزعيم إلى هرم التقدم، حسب اعتقاد!
انظر إلى سيّد البيت الأبيض وتفحَّص خطاباته وتغريداته، تتساءل عن كُنه هذا الرجل، وهل حقاً هناك مَن انتخبه ليمثل دولة؟! إذن هناك مَن صنع مهداً لكل خطابات الكراهية تلك.
وبطبيعة الحال لم تكن الأنظمة العربية ببعيدة عن تلك المنهجية التي غدت سياسة خطاب بين أواسط العامة ممن يؤيدون حزباً دون الآخر، وممن يوالون نظاماً دون الآخر.
هنا يكون الخطر أكبر وأفظع كون دائرة التأثير أوسع وأكبر نطاقاً، خاصة عندما تصبح المنصات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية مقاماً للردح والقذف والتشهير بالآخر، طامعين بتحقيق مكاسب سياسية بلسان لاذع وخلق سيئ ما له من رادع.
فالناظر للإعلام العربي الرسمي وعلى رأسه الإعلام المصري يدرك مربط الفرس، ويرى تأثير خطابات الكراهية المنبثقة من خلاله ميدانياً يدركُ جلياً فداحة الأمر.
وبذلك لم يعد يقتصر الأمر على تراشقات لفظية تبدأ من رأس السلم حتى أدنيه، بل وصل الأمر إلى إراقة الدماء، وقيام الانقلابات، وتهجير الآمنين، واستبداد سلطوي، وفقد للأمن، ورُخص لأغلى الموجودات وهو الإنسان.
وفي مقولة للكاتب المصري د. أحمد خالد توفيق يسرد فيها تحريض الإعلام واستخفافه بالحقائق في زمن ديكتاتورية الزعماء متقني فن الردح .. "هذا عصر يموت فيه الفتى أمام عدسات الكاميرا حيث يسهل أن تعرف كل شيء عن قاتليه، وبرغم هذا يظفر القاتل بالبراءة وربما أُدين أهل الشاب وأُعدموا".
ربما يرى أصحاب مبدأ خطابات الكراهية أن ذلك الأمر يسهم في تحقيق غاياتهم ويساعدهم في الوصول لمرادهم بخطوات أسرع من طرقٍ أخرى، وهم بذلك واقعون في وهم أحلامهم، حيث يرون أن في ذلك سياسة!
وهم بذلك الاعتقاد مخطئون قطعاً فسياسة الفتن وبث الكراهية يثبتون ضعفهم وخوفهم من المواجهة الحقة فيبدأون باتباع تلك السياسات.
فعلى أصحاب الفكر الراقي والمبادئ الواثقة ألا ينجروا خلف تلك السياسات الواهنة، والتشبث بطيب حواراتهم، وتوعية غيرهم من خطر تلك الخطابات التي تدل على ضعف وقلة حيلة منتهجيها، مع عدم الاستماع لها، وعدم الأخذ بمحتواها وتحكيم العقل قبل أية بادرة لردة الفعل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.