أحياناً تكون لدى الفنان التشكيلي قصة شخصية معروفة، وربما تسبق شهرتها أعمالَه، وهو ليس بالأمر العادل سواء للفنان أو الأديب أو الموسيقي؛ لأننا لا نعود ننظر لأعماله بشكل مجرد أو بالاهتمام الذي تستحقه.
وبهذه الكلمات تتلخص حكاية الفنان الفلسطيني عامر داوود، الذي عاش شبابه في سوريا، واشتهرت حكايات اعتقاله المتكررة قبل الثورة وبعدها، وذكرياته داخل المعتقل.
وكانت أكثر هذه الحكايات شهرة تعرّفه إلى زوجته السابقة المناضلة والروائية "رغدة حسن" في المعتقل من خلال فتحة عبر الجدار بين معتقلي النساء والرجال، ووقوعهما بالحب حتى فراقهما حين تم الإفراج عن عامر قبلها، ما جعل الجميع يجهش بالبكاء حتى السجان.
بعد حوالي العام تم الإفراج عن رغدة، بحثت عن منزل عامر كما كانت تتذكر العنوان وفاجأته، ليعود الحب وينمو من جديد، لكن هذه المرة في الحرية.
تزوجا وأنجبا ولدين، وبعد الثورة تجدد الاعتقال وتم تهديد عامر بالقتل، فسافر إلى دولة مجاورة بصحبة عائلته، وبدأت هناك معاناة من نوع آخر تتعلق بتحمّل عبء الحياة اليومية إلى أن نجحوا جميعاً بالسفر إلى فرنسا، وقد كانت حكايته هذه قصة الفيلم البريطاني الشهير "قصة حب سورية" للمخرج شون ماكاليستر.
وكان المخرج قد أُلقي القبض عليه من قِبل النظام السوري أثناء تصويره للفيلم داخل سوريا، وسرعان ما خرج ليتابع تصوير الفيلم خارج سوريا، حيث انتقل عامر وعائلته، الأمر الذي جعل تصوير الفيلم يمر بعدة مراحل، ويستغرق تصويره خمس سنوات، وتُوج هذا التعب في النهاية بأن حصل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان شيفيلد الدولي للأفلام الوثائقية في بريطانيا عام 2015.
ابتسم عامر حين سألته عن الفيلم، واعتبره جسّد فترة مهمة من حياته، ولم يتفق مع الاستنتاج بأن بقاء الماضي حولنا في كتاب أو فيلم قد يكون مزعجاً، بل رأى أنها الطريقة الوحيدة للتعايش مع هذا الماضي بتحويله إلى نتاج إبداعي وعرضه للمشاركة الإنسانية.
ويبدو أن هذا السلام الذي يعيشه عامر مع ألم الماضي لم يكن كافياً، فقد قرر التخلص من هذا الماضي في جميع لوحاته اللاحقة التي رسمها بالمهجر الفرنسي، فإن مشاهدة أعمال داوود في معرض تولوز الدولي الذي يُقام كل عام لمرة واحدة، تُظهر مدى التغيير الذي طرأ على لوحاته منذ أن ترك البلاد.
لوحات الفنان عامر القديمة فيها حكايات وذات قصة تثير العديد من الأسئلة، وغالبيتها تصور رحيل أشخاص دون ملامح، يلّوح فيها غريب ما بالوداع إلى ما وراء الحدود، فإما تقابله مشانق أو ملائكة من السماء؛ لوحات كلاسيكية، وحزنها أيضاً كلاسيكي بألوان غامقة كئيبة.
لوحات الفنان عامر داوود القديمة
هكذا كانت لوحات عامر حتى عام 2015 تقريباً، أما الآن في 2018 فتبدو لوحاته كأنها تعود إلى فنان آخر داخله، فيها كثير من التشظي والسوريالية والألوان الفاتحة المضيئة، وكأنه يحارب نفسه وأسلوبه وذكرياته وريشته القديمة.
من الممكن القول إنه تحوّل إلى فنان دادئي بوعي كامل، يعاند تقليده الذاتي ويحارب جمال لوحاته السابقة وحكاياتها، إلا أنه لا أحد من الممكن أن يلومه فقد حملت السنوات الماضية كثيراً من الخيبات التي لا يريد إعادة تجسيدها بريشته.
ويرسم الآن ما هو خارج الماضي والجذور، رافضاً محاكمته على أساس ما كان يمثله فنه خلال شبابه، باعتبار الفنان في حالة تطور دائمة من التغيير والتجريب، كما عنده القدرة على مد جذوره إلى أرض جديدة.
يقول داوود: "آخر مرة رسمت بأسلوبي القديم كانت في 2015 وقد أقمت معرضين بهذه اللوحات هنا في فرنسا، لقد كنت بلا هوية لمدة 40 عاماً لذلك تجدينني كنت دوماً شغوفاً فنياً بالبحث عن ذاتي وهويتي وأرضي المفقودة، أرسم وطني ومعاناة شعبي وأظهر الألم بطريقة ثورية، لكني الآن منذ أن استقررت بالمهجر تغيّرت حياتي بشكل جذري وكذلك أسلوبي الفني وألواني".
ويضيف: "لم تعد تشغلني الثيمات السابقة عن الهوية، لقد كان عندي إصرار على أن أنسى وأبدأ من جديد، وبدأت استخدم ألواناً زاهية لا أذكر أنني استخدمتها على بهائها من قبل كالأحمر والأصفر والأزرق وتدرجاتها".
ويوضح داوود أنه لاحظ حين أقام معارضه السابقة بأعمال قديمة صعوبة تقبّل المتلقي الفرنسي لها، ليس لأنها لا تدخل ضمن ثقافته الفنية الحالية فقط، بل لأنهم في فرنسا مروا بهذه المرحلة من الحزن والألم الوطني وعبروا عنها موسيقياً وأدبياً تشكيلياً ثم دفنوها، متابعاً بقوله: "شعرت أن ردود الفعل هذه كان بمثابة تحدّ كي أبدأ من جديد، لا أدري! ربما أصابتني حالة إنكار للماضي، لكني أشعر بالرضا عما أرسمه الآن".
ويزيد الفنان داوود بقوله: "أحياناً أفكر كيف يكون الفنان الخالص النقي المجرد من كل الشوائب والمعاناة حين يرسم، بالتأكيد الأمر يبدو نوعاً من الحلم، ولكن التجربة هي خير حكم في هذه الحالة، فحين انتهت معاناتي كجزء من الشرق الأوسط واختفت حيرتي نحو الهوية، وجدت ريشتي تتحول من الانطباعية إلى التجريدية".
وبالفعل أخذت لوحات داوود خطاً مختلفاً واختفى الأسود وأسئلة الذات وحلت المدن والألوان والفصول الأربعة، يقول: "رأيت هنا الأشجار والطبيعة بألوان مختلفة ومتنوعة فاستخدمت هذه الألوان في رسمي، وكما تلاحظين هناك دوائر في أغلب لوحاتي فهي ترمز إلى حدقة عيني التي أرى بها العالم، وحدقته التي يراني بها".
لوحات الفنان عامر داوود الجديدة
ويضيف: "لقد كنت سعيداً وأنا أرى لمعان عيون المتفرجين على لوحاتي في معرضي الأخير هنا بتولوز، بعد أن تجردت من حزني القديم".
داوود لا يسعى إلى الشهرة فنيًا؛ لذلك لا يهتم كثيراً إذا ما كانت حكايته في سوريا أكثر شهرة من أعماله، بل يرى أن الفنان كيان كامل لما يؤول إليه في اللحظة الآنية سواء كإنتاج إبداعي أو إنساني.
ويتفرغ داوود الآن بشكل كامل في منزله بالريف الفرنسي بعيداً عن الضجيج، للنحت والرسم في وسع من الطبيعة يناقض تماماً ذاكرة السجن في أمتار خانقة حين كان أمله الوحيد وقتها، فتحة في الجدار!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.