يقول الفيزيائي والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال: "بينما أدوّن أفكاري تفرّ مني أحياناً؛ لكن هذا يجعلني أتذكر ضعفي الخاص، الذي أنساه على الدوام. هذا يعلمني بقدر ما فكرتي الضائعة، ذلك أنني أكابد، لكي أتعرف على خوائي الخاص".
منذ قرأت هذه العبارة وأنا في هوسٍ إلى حدٍّ ما، فباسكال هنا لخّص الصراع في ذاتِ أي واحدٍ منا كبشر؛ فجملة ما يقول تعدّى ما يتعلق بالتدوين أو الكتابة، لقد طرح معاناة الإنسان وضعفه جراء ما يكابد من تكاليفِ حياته يوماً تلو الآخر، فكلُ واحدٍ منا يكابد تبعاً لظروفه، الكاتب وبحر أفكارِه، العامل الكادح تحت أشعة الشمس الحارقة، الطبيب في أروقة المستشفيات، والمعلم الغارق في عقول طلابه، والقائمة تطول ولن تنتهي إن شرعنا لإكمال جميع مهن البشر على وجه هذه البسيطة، وكلما تعايشت أكثر في حياتك وازدادت خبرتك وتصوراتك -والتي بلا شك تكون متقلبة- ازدادت معرفتك بضعفِك الداخلي الخاص، وهذا من فضائل الأمور، وليس بالأمر المشين تخابره مع الأيام، فتعليقاً على ما سبق يقول الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي: "إن أذكى البشر، هو مَن ينعت نفسه بالأحمق مرة في اليوم على الأقل".
دعونا ننتقل إلى السُّبل التي يختارها الإنسان لمجاراة إحساس الضعف والألم هذا، وهذه السُّبل سوف تندرج تحت مجموعة من المعتقدات أو الأيديولوجيات، إلا أن الأسى والتراجيديا سوف يتفاوتان قياساً على ما نؤمن به، ولكنهما أمر حتمي في نهاية المطاف، فإن كنت مثلاً من أصحاب المذهب "النيتشوي، الما بعد حدثي" الذي يدعو فيه مُنظره الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه إلى التمسك بأخلاق السادة والتجرد من أخلاق العبيد، ومحاربة المعاناة والضعف من خلال هذا التصور غير الأخلاقي، فإن مجرد شُروعك بهذا التصنيف للمجتمع سوف ينتهي بك المطاف إلى عدمية، وكأنك في حلقة مفرغة لا هروب منها، والنتيجة هنا هي تراجيديا وأسى عدميان، دون نقطة وصول لأي شيء بالمطلق، فتطرف نيتشه هذا نسفه تماماً وقد قضى اثني عشر عاماً من عمره مجنوناً،
ولتنتهي حياته بعدها، فنيتشه -وإن صح التعبير- هو شيء استحال عقلاً فيسيولوجياً بحث عن المثالية في صغير الأمر وكبيره، ومثاليته هذه، وصلت به لمحاولات لكي يتخلص بها من نفسه، أو بالأحرى من ضعفه وألمه، ومأساتاه هذه أفضت به مجنوناً عند نقطة ما من هذا الصراع العدمي، وعلى جانبٍ آخر قد تختار أن تكون فناناً، تقارع الحياة بفنك، سواء أكان أدباً، شعراً، رسماً، أو موسيقى، ولكن إن كنت ممن يرون في الفن الخلاص والملاذ الأخير فستصل إلى خيبة أمل صادمة، ومأساتك هنا ستأخذ شكلاً دموياً، تنهي به حياتك في الغالب، فترى الأديب الأميركي إرنست هيمنغوي، الذي قال: "إن العالم مكان جيد للقتال من أجله" يناقض نفسه جملةً وتفصيلاً، فقائل هذه العبارة انتهى به الأمر منتحراً، منهياً مأساته بشكل دموي.
وترى الفنان الهولندي "فان جوخ" يُنهي حياته أيضاً على نفس المنوال، الذي قال لأخيه: "الحزن سيدوم إلى الأبد"، فسلوك هذا السبيل واضعاً إياه كمطلق ليس خلاصاً البتة، فكل ما تنتجه وتطرحه من فن هو إزاء ماذا؟ فعليك أن تسأل نفسك هذا السؤال دائماً، كل هذه المكابدة و وإحساس الضعف الألم إزاء ماذا؟ ولمن؟ وهذا السؤال أيضاً هو أحد إشكاليات الماديين أيضاً، فالحياة الفارهة، والسعي وراء المال لتحقيق شهوات النفس المتعددة، وضمان حياة رغيدة ومنزل مستقل كما يُوصف -بالحلم الأميركي- كلُّ هذا سيكون هباءً منثوراً لأنه لم يُعرف إزاء أي روحانية عليا، فقط المال وتوابعه، وتراجيديا أتباع المذهب المادي هي تراجيديا فارغة حقيرة، ولعلي أراها حيوانية، ولم تصل لمقام تراجيديا معتبرة، مقارنةً بما ذكرتُ سلفاً، وأقول آسفاً إننا وقعنا ضحايا للمادية، وذلك مما لا شك فيه، فقد صدر الغرب ماديته، لنصبح نحن وهم سيان، كرجال آليين تحكمهم سطوة الرأسمالية، والسعي وراء المال لتأمين ما يضمن حياة مستورة كما يقال، والكلام يطول في عرض النمطية جراء وحش المادية الفارغ، الذي يفترس المجتمعات في كل لحظة تمرُ وتنقضي.
بعد ما عرضت الشيء اليسير من توجهات بعض المذاهب في عالمنا وكيف سلكوا سُبلاً وطرائق قدداً، وكيف أن معظم ما أفضوا إليه كان مصحوباً باللامعنى على طول الخط، فذلك يُحتم عليّ أن أَخلُص لما أريد أن أقول، وما شأني بكل ما كتبت، مأساة الإنسان حاصلة لا محالة، ومحاولة الهروب منها وحقن النفس بإبر تخديرٍ من وقتٍ لآخر تناسياً للصورة الكاملة الجلل التي ستكشف عن وجهها يوماً ما، ما هو إلا تصرف عبثي بالضرورة، والأجدر بنا أن نبحث بعمق عمَّا يحقق معنى لهذه المأساة إن كان لا بد منها، فالحري بنا أن نضع الله نُصب أعيننا، وأن يكون هو الثابت الوحيد إزاء كل تفاصيل حياتك، أفكارك المتطايرة في الأثير، آلامك وأحزانك، وخوائك الخاص، الذي سيمتلئ يوماً ما إن كان الله هو المحرك الحقيقي لكل ما تفعل وتقول،
وأظن أن السؤال سيكون: وكيف لي بهذا؟ وما السبيل ليكون الله هو الثابت الوحيد؟ وأعتقد أن الإجابة هي سلسلة من التجارب وستأخذ مدىً طويلاً، فأنا لم أدعِ وصولي بعد، ولكنني رأيت جادة الصواب، وآملُ أن أستمرَّ فيها، وألَّا أنكسر، فكلُ ما عرضته هنا ما هو إلا محض تحليلات وتجارب لمن سبق، بحثاً عن معنى للحياة، وأتمنى أن أرى الله على غرار كتاب الدكتور مصطفى محمود -رحمه الله- ففي كل مرة أُمعن النظر أكثر، أرى الله يتجلى في كل شيءٍ بالمطلق، فتقرأ للعملاق علي عزت بيجوفتش، وكيف وصف الماركسية الشيوعية بالعبثية، فجميع ما خططوا له وما تبنّوا من نبوءات لماركس ما هي إلا عدم، فحياتهم نهايتها العدم.
السمو والحرية المطلقة تكون في العبودية والتسليم لله وحده، وهذا خلاصة ما صدر عنه علي عزت بيجوفتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب، ولا سواها يشفي غليل مأساة أي إنسان، فإن لم يكن الله كلَّ شيء فليس هنالك من معنى لأيِّ شيء، والجدلية في ذاتك لا بد منها لإحقاق هذا الأمر، ولن تكون من أصحاب الهوى والنمط إن مشيت في هذا الطريق، وإنما ستجد نفسك في سربٍ وحدك، تقارع ما تقارع من صراعات ذاتية لا مفرَّ منها، فالأمر عظيم وفيه حقيقة الحياة الدنيا، فاربط الأحزمة يا صاحبي،
وانطلق في رحلة البحث هذه، لعلك تسمو على مأساتك، وتجد الله أينما درت برأسك المليء بضجيج هذا العالم، فلا مهربَ منه إلا إليه، الله هو المطلق وهو الأول والآخر وإليه المصير في الدنيا إن هربت إليه فيها، وفي الآخرة أيضاً، ولكن في هذه ستكون رغماً عنك، فحلق إليه في دنياك تسمو وتعلو على جراحك، ولك من كل هذا الجزاء العظيم، فقد قال جل وعلا: "أليس الله بكافٍ عبده".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.