على مدار الشهور الماضية أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن الجولة الثانية من العقوبات الأميركية على إيران والتي منها حظر استيراد النفط الإيراني ، في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، ستكون الأشد قسوة بهدف تغيير سلوك النظام الإيراني تجاه تدخله في شؤون دول الجوار ودعمه الإرهاب.. ولإرغام النظام الإيراني على قبول اتفاق نووي جديد بعد الانسحاب الأميركي المنفرد منه في مايو الماضي.
لكن قسوة ترامب لم تكتمل وغلبها ذكاء سياسي تفاعل بحكمة مع معطيات متجددة دفعته لإصدار إعفاءات مؤقتة من حظر استيراد النفط الإيراني لثماني دول حليفة أهمها: إيطاليا وتركيا والهند واليابان وكوريا الجنوبية، ولكن لماذا هذه الدول تحديداً؟
أولاً: إيطاليا خامس أكبر مستورد للنفط الإيراني بأكثر من 180 ألف برميل يومياً
تعاني إيطاليا من أزمات مالية متراكمة من ارتفاع الدين العام إلى 2.3 تريليون يورو، وهو مخالف لقواعد الاتحاد الأوروبي، مروراً بارتفاع درجة مخاطر السندات الإيطالية، وهروب رؤوس الأموال الاجنبية، وصولاً إلى الديون السيئة للمصارف الإيطالية التي تحتوي على قروض متعثرة بنحو 360 مليار يورو.. وهذه أهم نقطة، حيث إن المؤسسات المالية في فرنسا منكشفة على استثمارات ضخمة في إيطاليا بنحو 316 مليار دولار، بينما مثيلاتها الألمانية أقل كثيراً بنحو 91 مليار دولار فقط.
وربما الموقف المالي لكل من فرنسا وألمانيا في الأزمة الإيطالية تحديداً هو مفتاح السر لاختيار ترامب إيطاليا من إحدى الدول الثماني المشمولة بالإعفاء المؤقت من حظر استيراد النفط الإيراني.
فرنسا حليف أوروبي مُهم للولايات المتحدة وتجمعهما نقاط تماسّ كثيرة أحدثها موقف مخفف من وحدة الاتحاد الأوروبي وملف بريكست بريطانيا، وذلك على عكس ألمانيا تماماً، وكذلك الموقف المرن تجاه عقوبات أوروبية محتملة على السعودية تتضمن حظر تصدير السلاح الأوروبي إليها على خلفية قضية اغتيال خاشقجي، وهو أيضاً على عكس الموقف الصلب لألمانيا في نفس القضية.
إذاً الإعفاء الأميركي لإيطاليا له مزايا عديدة منها دفع حركة التعثر الاقتصادي واستفادة الدائنين الفرنسيين من ذلك بمجاملة نفطية صغيرة وحث فرنسا على خروج متوقع من الاتفاق النووي مع إيران.. وكذلك ضرب المثل لألمانيا بتبني الرؤية الفرنسية الأميركية في القضايا المشتركة.
ثانياً: تركيا رابع أكبر مستورد للنفط الإيراني بأكثر من 200 ألف برميل يومياً
شكَّلت لحظة الإفراج عن القسّ الأميركي أندرو برنسون الذي كان محتجزاً في تركيا لمدة عامين انعاطفاً إيجابياً في العلاقات الأميركية التركية بعد توترات جمعت الطرفين في عدة قضايا متشابكة من الضغط على الاقتصاد التركي والتواجد في سوريا والعراق، مروراً بالتأثير التركي في الداخل الألماني والتقارب التركي الروسي، وصولاً إلى قضية اغتيال خاشقجي التي وقعت في إسطنبول.
وليس أدلّ على الانفراجة في العلاقات التركية الأميركية من حركة الليرة التركية التي قفزت أمام الدولار من فوق مستوى 6 ليرات إلى مستوى 5.7 ليرة عند الإفراج عن القسّ الأميركي في 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وارتفاع حيازة المستثمرين الأميركيين إلى 60% من آخر إصدار للسندات التركية في 17 أكتوبر الماضي، وكذلك مواصلة تقدم الليرة إلى مستوى مريح قرب 5.35 ليرة أمام الدولار الواحد مع الإعفاء الأميركي المؤقت لتركيا من حظر استيراد النفط الإيراني.
إذاً الإعفاء الأميركي لتركيا جاء مكافأة على ما مضى وتحفيزاً ضمنياً لما هو قادم ومشترك بين الطرفين، فالموقف التركي من قضية خاشقجي أكثر صلابة تجاه السعودية من الموقف الأميركي.. وملفات سوريا والعراق وروسيا مازالت معلقة وبها من المساحات المتقاطعة بين تركيا والولايات المتحدة ما يدفع الطرفين لحلحلة الأمور ومحاولة تبني رؤى مشتركة.
ثالثاً: الهند وكوريا الجنوبية واليابان
الهند ثاني أكبر مستورد للنفط الإيراني بأكثر من 450 ألف برميل يومياً.
وكوريا الجنوبية ثالث أكبر مستورد للنفط الإيراني بأكثر من 250 ألف برميل يومياً.
واليابان سادس أكبر مستورد للنفط الإيراني بأكثر من 130 ألف برميل يومياً.
الدول الثلاث السابقة هي دول منافسة ومؤثرة في محيط الصين التي تشهد نزاعاً تجارياً متنامياً مع الولايات المتحدة الأميركية بفرض رسوم جمركية متبادلة.. واختيار تلك الدول للإعفاء الأميركي دون الصين التي تعد المستورد الأول للنفط الإيراني بأقل من 600 ألف برميل يومياً ينفي أي نية لتراجع مرتقب في الموقف الأميركي تجاه الصين.
إذاً الإعفاء الأميركي المؤقت لبعض الدول من حظر استيراد النفط الإيرانى هو إعفاء سياسي مشروط أكثر منه إعفاء اقتصادي مؤثر في مستوى الصادرات النفطية لإيران التي بالتأكيد سيكون رد فعلها العصبي على العقوبات الأميركية متزناً نوعاً ما بعد ضمان تدفق 1.2 مليون برميل يومياً من نفطها إلى دول الإعفاء بطريقة شرعية تحت العيون الأميركية.
أخيراً: الإعفاء الأميركي المؤقت سيحقق أيضاً رغبات ترامب في أسعار منخفضة للنفط حول 60 دولاراً للبرميل.. حقاً برافو ترامب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.