مررت على مدرسة حكومية ذات صباح وأنا في طريقي إلى العمل فاستوقفني صوت عدد غفير من التلاميذ يرددون وراء المعلم درساً من دروس القراءة في مادة اللغة العربية على ما يبدو، فجذبتني أصوات التلاميذ العالية على آخرها فأحدثت في نفسي رهبة، فتمهلت في مشيتي إلى أن تسمّرت في مكاني لأسترق السمع من الحوار الدائر بين المعلم والتلاميذ فلم أتمالك دموعي، فأصوات التلاميذ والحماس يملؤها بث في نفسي خشوعاً أشبه بالخشوع عند الصلاة والقرب من الله، ولِمَ لا ومحراب العلم أشبه بمحراب العبادة، فبالعلم يعرف الإنسان كيف يعبد الله، فلولا العلم لصار الناس مثل البهائم كما قال الحسن بن عليَّ، رضي الله عنه: "فبالعلم يخرج الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية".
وددت بما سمعتُ لو أستطيع الوصول إلى المُعلم والوقوف أمامه إجلالاً وإكباراً لبذله كل ما بوسعه – فيما بدا لي – لأداء مهمته، فهو بحق ممن قال فيهم أمير الشعراء أحمد شوقي:
قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا *** كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي *** يبني وينشئُ أنفـساً وعقولا
فعلى الرغم من تردي أوضاع التعليم في مصر هذه الأيام بدءاً من الكثافة العالية للفصول، ومروراً بعدم الجدية في تدريب المعلمين تدريباً مهنياً ينهض بالعملية التعليمية ليؤسس أنفساً وعقولاً بناءً على فكر مؤسسي لدولة حريصة على أبنائها، ووصولاً إلى طغيان الدروس الخصوصية إلى حد استبدالها بالعملية التعليمية في المدرسة، الأمر الذي حوَّل المعلم إلى تاجر مع كامل احترامي للتجارة في السلع وكامل ازدرائي للتجارة في القيم التي من شأن المدرسة إرساؤها.
فمع هذا كله سمعت التلاميذ يرددون بكل قوة في الوقت الذي يمتلئ فيه المعلم بالعزيمة والإصرار الواضحين في علو صوته ووضوح كلامه؛ إذ سمعته يدرِّبهم على فرق النطق بين حرفي الذال "ذ" والزاي "ز"، وأن الذال واحد من الأحرف اللثوية أي التي يلامس فيها اللسان اللثة الخلفية للأسنان العليا الأمامية، ولم تعُقه كثرة أعداد التلاميذ في تمييز أصواتهم وتصويب ما يسمع من خطأ بطريقة لا تخلو من حسّ فكاهي يبعث على ضحكهم، فسمعته يقول لهم: "أنا عارف اللي مش بينطق الحرف صح، أعرفه كويس لكن قدامه فرصة للتصحيح"، فيبتهج التلاميذ ويضحكون، ويعيد عليهم كيفية نطق الحرفين ويرددون وراءه حتى يتأكد أنهم قد لمسوا الفرق بين الحرفين، فينتقل إلى نقطة أخرى في الدرس.
وعلى الرغم من أنني لم أرَ هذا المعلم فإنني أطلقت لخيالي العنان لأتصور عقليته وفيما يفكر حِيال التعليم، فظننته على يقين بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "أَيَّمَا رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْماً فَكَتَمَهُ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَجَّماً بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ".
ومن المؤكد أنه مؤمن بأن العلم قيمة كبيرة ترفع مكانته كلما نشرها، وأنه ليس سلعة تُباع لمن يدفع أكثر، وأعتقد أنه صاحب رسالة سامية في الحياة وسيلتها نشر العلم فيبذل كل ما لديه ليحقق بذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
وأرى أنه ربما يخاف أن يعمّنا الله بعقابه أو عذابه فيحاول جاهداً تغيير حال التعليم في المدارس في ظل تخاذل دور المؤسسة التعليمية وغياب رقابة الدولة على تعليم أبنائها، الذين هم أهم ما في أمنها القومي، تعليماً سليماً، فقد ورد في الحديث الشريف: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغِّيِروه، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ".
أو ربما يود أخيراً أن يكون صاحب فضل على التلاميذ كفضل القمر على سائر الكواكب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ"، فيُخرج التلاميذ – بما يقدم لهم – من الظلمات إلى النور.
ألا يستحق هذا المعلم بعد ذلك كله الوقوف له تبجيلاً وإكباراً لأنه بالفعل كاد أن يكون رسولاً؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.