عودة المغرب للحضن الإفريقي والسياق القاري والإقليمي للعلاقات بين البلدين
منذ تخلّيه عن سياسة الكرسي الفارغ إزاء المنظمات القارية الإفريقية التي اعتمدها منذ سنة 1984، في إثر اعتراف منظمة "مؤتمر الوحدة الإفريقية" بـ"الجمهورية الصحراوية" المعلنة من جانب واحد من طرف "البوليساريو" سنة 1984، دشَّن المغرب جهوداً دبلوماسية وسياسية هامة في السنوات الأخيرة، بغرض تكريس وضعه الجديد في المنظمة القارية الإفريقية، تكلَّلت باستعادته عضوية منظمة "الاتحاد الإفريقي"، وهمّ بتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع العديد من الدول الإفريقية، بالإضافة إلى ضخّ استثمارات والدخول في شراكات اقتصادية خاصة في مجالات صناعات الأسمدة، والاتصالات، والبنوك، وخدمات النقل الجوي، وكذا تقديم مساعدات ومنح مالية للعديد من الدول… بخلاف سن قوانين تنظم الإقامة واللجوء، أسهمت في احتضان المغرب لجاليات العديد من الدول الإفريقية.
لكن هذا الانفتاح على الدول الإفريقية رافقته حالة من الشد والجذب في العلاقات مع موريتانيا، الجار الجنوبي للمغرب، التي تعتبر بوابته الرئيسية إلى دول غرب إفريقيا، والتي يجمعه بها المعبر البري المفتوح الوحيد الذي يربطه ببقية دول القارة، في ظل حالة التوتر والتصعيد مع جارته الشرقية الجزائر، وما يرافقها من غلق للحدود البرية منذ قرابة ربع القرن من الزمن.
فموريتانيا الدولة الغنية بمقوماتها الطبيعية وموقعها الجغرافي المتميز، بالإضافة إلى فرص الاستثمار الواعدة فيها، تعيش إشكالات تنموية حقيقية من قبيل ارتفاع معدلات الهشاشة المجتمعية كالفقر والأمية والتفاوت الطبقي، ما قد يطرح إشكالية عدم التوازن الاقتصادي بالنسبة للمغرب، الذي يعيش على وقع نفس المؤشرات ولكن بدرجات متفاوتة، كما يتطلع البلدان إلى تحقيق الانتقال الديمقراطي وتكريس التناوب السلمي على السلطة، في محيط إقليمي دولي يشهد تحديات أمنية خطيرة، على رأسها مواجهة الجماعة المسلحة وعصابات التهريب والتدخلات العسكرية الأجنبية… ورغم التفاوت المسجل في الوضعين الاقتصاديين والتنمويين في كل من المغرب وموريتانيا، فإنهما تجمعهما روابط تاريخية وثقافية متينة، من شأن استغلالها وتوظيفها أن يسهم في تحقيق التقارب وتسريع الاندماج فيما بينهما، كما يمثل البلدان امتداداً إنسانياً واجتماعياً ومجالاً حيوياً لبعضهما البعض.
مقومات تاريخية هامة
وشائج قربى وأواصر لا حصر لها تربط الشعبين الشقيقين، وتاريخ وإرث ثقافي مشترك حافل، يمتد منذ هجرات القبائل اليمنية ما قبل الميلاد، مروراً بالفتوحات الإسلامية وهجرات القبائل الصنهاجية في المجال الصحراوي، ثم دولة المرابطين التي وحَّدت بلدان المنطقة، وليس انتهاء عند إرث الجهاد والمقاومة ضدَّ الاستعمار المشترك بين البلدين، بخلاف عناصر الهوية المشتركة والإرث الثقافي الكبير الذي يجمعهما، والذي على رأسه الثقافة الحسانية التي باتت تحظى بإقرار حفظها وصيانتها دستورياً في كلا البلدين، بالإضافة إلى أصول القبائل والأسر المشتركة والامتدادات المجتمعية في المناطق الحدودية…
مقومات ثقافية، تاريخية واجتماعية من شأن توظيفها سياسياً ودبلوماسياً أن يؤسس لعلاقة قوية بين البلدين، ستُسهم لا محالة في تقوية اقتصادَي البلدين وتحقيق النهضة التنموية فيهما، عبر تحقيق التكامل والانفتاح الاقتصاديين، وتحسين فرص الاستثمار، وخلق مناصب العمل، وتوفير الأسواق للسلع والبضائع المحلية في كلا البلدين… طموحات ظلت منذ استقلالهما رهينة للحسابات السياسية الضيقة الخاصة بالأنظمة السياسية المتعاقبة، في ظلِّ واقع العلاقات الثنائية المضطرب فيما بينهما، التي تحكمها في الغالب الاعتبارات السياسية والأمنية بالدرجة الأولى.
فترة استقلال البلدين.. الصدام الدبلوماسي
رغم الصدام الدبلوماسي بين البلدين الذي شهدته فترة الإعلان عن استقلال موريتانيا منذ أواخر خمسينات القرن الماضي، في إثر المطالب المغربية الرسمية بتبعية موريتانيا للمغرب بموجب روابط تاريخية، وبالرغم من الإجراءات التي أقدم عليها المغرب من قبيل دعم واحتضان الوجهاء والزعامات السياسية الموريتانية الموالية له والمناوئة للنظام الموريتاني الفتيّ، وتأطير بعضها ضمن تنظيم "جيش التحرير" التابع له، إلا أن المغرب سرعان ما تخلى عن تلك المطالب باعترافه رسمياً بموريتانيا سنة 1969، عشية "قمة نواذيبو" التي جمعت زعماء كل من المغرب وموريتانيا والجزائر، والتي عقدت سنة 1970 بموريتانيا، ما يسهم في تطبيع العلاقات فيما بينهما، بالرغم من عدم الحسم في موضوع النزاع حول إقليم الصحراء الغربية، المستعمرة الإسبانية آنذاك، التي شكَّل موضوع مصيرها أهم أجندات القمة الثلاثية، حيث ظلَّ البلدان متمسكين بمطالبهما حولها.
النزاع الصحراوي.. التحالف الاستراتيجي بين البلدين
بالرغم من عدم حسمهما لملف الصحراء -المستعمرة الإسبانية آنذاك- فإن العلاقات بين البلدين تعزّزت بتوقيعهما على اتفاقية مدريد التي جمعتهما بإسبانيا سنة 1975، والتي تقاسما بموجبها مجالات إدارة الإقليم، كما دخلا في تحالف عسكري لمواجهة جبهة البوليساريو، حيث جمعتهما العديد من الاتفاقيات والشراكات الاستراتيجية، أبرزها اتفاقية الدفاع المشترك التي تعسكر بموجبها قوات مغربية داخل الأراضي الموريتانية، لتأمين مجموعة من المصالح الاقتصادية الحيوية، خاصة تلك المتعلقة بمنجم الحديد بمدينة الزويرات الحدودية شمال شرقي موريتانيا، الذي تشرف عليه الشركة الوطنية للصناعة والمعادن "سنيم"، المساهم الأكبر في الاقتصاد الموريتاني.
سنوات قليلة أنهك فيها الاقتصاد الموريتاني جراء الحرب المستعرة مع جبهة البوليساريو، الأمر الذي أدخل البلد في دوامة الانقلابات وحكم الأنظمة العسكرية، حيث تأزمت العلاقات المغربية الموريتانية مجدداً، جراء توقيع موريتانيا لاتفاقية سلام مع البوليساريو بالجزائر سنة 1979، بداية فترة حكم العقيد محمد خونا ولد هيدالة، انسحبت بموجبها موريتانيا من إقليم الصحراء رغم احتفاظها بإدارة منطقة الكويرة الحدودية الحساسة، المحاذية لميناء العاصمة الاقتصادية الموريتانية نواذيبو.
مشروع الاتحاد المغاربي ثم موقف "الحياد الإيجابي" إزاء النزاع الصحراوي
شهدت فترة الثمانينات عودة الدفء إلى العلاقات المغربية الموريتانية، بعد وصول العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع إلى سدة الحكم، خاصة بعد تبنّيه لموقف محايد من نزاع الصحراء، بالأخص بعد دخول البلدين في الجهود الرامية إلى تأسيس اتحاد المغرب العربي، التي تكلّلت بعقد قمة مراكش وإعلان الاتحاد سنة 1989، على الرغم من التوتر الملحوظ في العلاقات فيما بين البلدين، نتيجة المواقف الاقليمية المعبر عنها إزاء أحداث الصدامات العرقية التي شهدتها مناطق جنوبي موريتانيا نهاية ثمانينات القرن الماضي، وما رافقها من توتر في العلاقات مع دولة السنغال المجاورة.
بعد دخول الأمم المتحدة على خطِّ نزاع الصحراء سنة 1991، في إثر توقيع المغرب وجبهة البوليساريو على اتفاق وقف النار، أعلنت موريتانيا عن تبنّيها موقف "الحياد الإيجابي" الداعم لجهود المنظمة الأممية في تحقيق السلام في المنطقة، حيث لا تزال تنخرط في الجهود الرامية إلى تسهيل عمل البعثة الأممية في الصحراء، وتستقبل موفدي الأمم المتحدة ومبعوثيها المكلفين بالملف، كما تشارك إلى جانب الجزائر كطرفين ملاحظين في مختلف جلسات المفاوضات التي تنظمها الأمم المتحدة بخصوص النزاع الصحراوي إلى جانب كل من المغرب والبوليساريو كطرفين رئيسيين.
الاقتصاد.. مجال لتعزيز التعاون
شهدت فترة سنوات نهاية التسعينيات من القرن الماضي، وبداية القرن الحالي تعزيز العلاقات الثنائية بين المغرب وموريتانيا، نتيجة الانفتاح الاقتصادي الملحوظ فيما بين البلدين، حيث ازدادت حركية تنقل الأشخاص، والسلع والبضائع فيما بينهما، جراء تعبيد الطريقين الرابطين بمعبر الكركارات في كلا البلدين، بعد مساهمة المغرب في تمويل وإنجاز جزء هام من الطريق الرابط بين نواكشوط والمعبر الحدودي، الأمر الذي فتح المجال لتسويق السلع المغربية بشكل واسع في موريتانيا، ومن خلالها في مجموعة دول غرب إفريقيا، كما أسهم في زيادة أعداد الجالية الموريتانية في المغرب والجالية المغربية في موريتانيا، بالموازاة مع تعزيز الاستثمار المغربي الرسمي في موريتانيا، حيث استحوذت شركة "اتصالات المغرب"، المملوكة آنذاك للدولة المغربية سنة 2001، على ما نسبته 54% من رأس مال شركة "موريتل"، الفاعل التاريخي في مجال الاتصالات في موريتانيا.
(يتبع)…
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.