التاريخ لا يرحم من تخلَّف عن ركبه يوماً، ولا يأسف على من تخاذل وخان وقت ضحَّى آخرون بدمائهم في زمن عواصف التغيير الجارفة. إنه من واجب الشعوب ألا تُخلف مواعيدها مع التاريخ، وأن تستثمر بحذقٍ كل الفرص السانحة التي تسمح بتغيير حقيقي في ميزان القوى؛ كي لا تُذبح بمِدْية التاريخ الصدِئة مرات عدة.
لقد أثبت هذا التاريخ نفسه أن الشعوب التي سارت قُدُماً في بناء قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كانت قد ناضلت من أجل التغيير السياسي والإصلاح الديني العميقين وقت كان لِزاماً فعل ذلك. لعل لنا في الثورة الفرنسية خير مثال على الاستماتة في سبيل العيش الإنساني الكريم بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ بيد أن فرنسا الجريحة فيما بعد الثورة لم تتخبط طويلاً في دمائها؛ بل إن تأطير فلاسفة ومفكري عصر الأنوار لمخاضها العسير أنار أمامها طريق بناء دولة الحداثة والديمقراطية.
إن الإصلاح الحقيقي عبر التاريخ ﻻ يتحقق إﻻ بتغيير سياسي عميق يُبنى على التعددية الديمقراطية والفصل بين السلط وبناء دولة المؤسسات والحق والقانون، إلى جانب إصلاح ديني يتجاوز التآويل التقليدية الجامدة للنص الديني، ويُقر بالتسامح، ويُحِلّ الثقافة المدنية محل ثقافة النص؛ يسبق كل هذا ثورة فكرية ثقافية مؤطرة لهذا التغيير.
لربما كثير من هذا لم يتحقق فيما عُرف بالربيع العربي، الذي سرعان ما تساقطت أوراقه فغدا خريفاً. أبرزت خلاله الملكيات، كأنظمة استبدادية، التفافاً واضحاً حول مطالب شعوبها بدساتير ممنوحة كرَّست الحكم المطلق؛ لتبكي الشعوب بعدها حظَّها الآسن، بتضييعها موعداً مهماً وحاسماً مع التغيير.
قد تكون قضية اغتيال الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي ، تزامناً مع ذكرى اختطاف وتصفية الأستاذ والمعارض المغربي بنبركة -بالنظر إلى التشابه بين القصتين مع اختلاف جوهري في مرجعية الرجلين- موعداً تاريخياً، سيكون ثمن خذلانه عقوداً أخرى من التصفيات والانتهاكات وتقوية للديكتاتوريات من المحيط إلى الخليج.
أمام مقهى "ليب" الفرنسي يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 1965، اختُطف المعارض المغربي وزعيم حركة العالم الثالث والوحدة الإفريقية المهدي بنبركة، الذي كان يستعد حينها لحضور مؤتمر القارات الثلاث بهافانا. تمت تصفيته وإتلاف جثته دون أثر، بتواطؤ مشتبه فيه بين الاستخبارات المغربية وأطراف استخباراتية دولية أخرى، ومن بعده موت كل من اشتُبه في ارتباطه بحادثته، بشكل يبعث على الارتياب.
على الرغم من تعدد الروايات حول ما حدث للمعارض الاشتراكي المهدي بنبركة، وما صدحت به أصوات عائلته ومسانديه للكشف عن مصيره، فإن أحداً لم يستطع فك شيفرة اغتيال الرجل أو تقديم اتهام صريح لجهة ما، في وقت صرح فيه العاهل المغربي الراحل، الحسن الثاني، في استعارة ماكرة، بأن التحضيرات كانت جارية على قدم وساق لاسترجاع أستاذه في الرياضيات لحل مسألة معقدة بالبلاد.
منذ ذلك الحين، أُخرست أصوات معارضة كثيرة بالاعتقال والاختطاف والتصفية، وضيّع المغرب مواعد كثيرة مع التاريخ منذ أن فشل بناء دولة ما بعد الاستقلال -ما جعل بنبركة يلجأ إلى منفاه الاختياري في فرنسا- إلى انتفاضة مارس/آذار، من سنة اغتياله نفسها حتى حراك 2011والريف وما تلاه. نتج عن هذا المسار ديمقراطية شكلية، وتعددية حزبية مُتجاوزة، ومؤسسات صورية، وتهميش لكل المطالب الاجتماعية.
في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2018، دخل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي قنصلية بلاده في إسطنبول -حيث تم استدراجه- لتتم تصفيته جسدياً، وإتلاف أشلائه بطريقة كشفت التحقيقات عن بشاعتها. وبعيداً عن مجريات سيناريو الاغتيال السعودي العاري، ولعبة الدول المعنيَّة في ملفه بأوراق تضمن ما يمكن من مصالح سياسية واقتصادية؛ فإن اغتيال الصحافي جمال خاشقجي يضع المجتمع الدولي أمام اختبار عسير لحقوق الإنسان وحفظ حريات التعبير، وتعري الإصلاح الأحادي المزعوم لولي عهد السعودية.
إﻻ أن الإفلات من العقاب في جريمة اغتيال بهذه الفظاعة والفضيحة سيسوق خارطة الشرق الأوسط إلى الأسوأ.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.