أنْ تكون بشراً فهذا أمر خلقي، تُخلق به، أي هناك بشر، وهناك حيوان، وهناك طائر، وهناك حشرة، وهناك زواحف، وهناك سمكة، وهناك مخلوقات كثيرة خلقت في هذا الكون الشاسع.
ولكن أن تكون إنسانياً فهذه صفة خاصة جداً، أقرب إلى أن تكون نادرة الوجود.
والأنسنة فعل لا يرتبط فقط بصفة المخلوق، أي لا يجب أن تكون إنساناً لتكون إنسانياً، يعني يمكن أن تكون كلباً أو قطة أو حوتاً أو عصفوراً أو نحلة وتتمتع بصفات إنسانية.
ويمكن بالطبع أن تكون إنساناً مُتحيوناً.
يعني صفة الأنسنة التي ارتبطت بتسمية الإنسان، على الأرجح تكوَّنت لأن بالإنسان عقلاً يميزه عن باقي المخلوقات، طوّر المشاعر بطرق أكثر حسية، وبالتالي نظم قواعد أخلاقية فصلته عن درب باقي المخلوقات الهائمة.
فما يميز الإنسان الإنساني عن باقي الخلق، بما فيهم البشر هو تحكم أخلاقه في أفعاله. وهنا الأخلاق ليست لائحة من الصفات التي يتحلَّى بها المرء، فتشكله لتعطيه الصفة.
إن الأخلاق هي المكون الأساسي للإنسانية، والمركب الأساسي للأخلاق هو تشغيل الحس المرتبط بين العقل والقلب.
لهذا نرى كائنات ليست إنسانة، فيها صفات إنسانية رائعة. فالحيوان في هذه الحالات تعدَّى مرحلة بهيميته وجعل من حسه محركاً لدرب حياته. هذا الحس الذي يستطيع فيه المرء الربط بين ما يمليه عليه عقله وقلبه ليجعله إنساناً كفؤاً بإنسانيته.
ما يجري حولنا من غياب تام للإنسانية هو حيونة الإنسان فينا.
في اللحظة التي احتكم فيها الإنسان إلى أحد مراكز الحس عنده، لا كلاهما، يصبح مجرد مخلوق حيواني. وهنا علي أن أسجل أنني لا أريد الحطَّ من قدر الحيوان، لأن حيونة الإنسان تفوق حيونة الحيوان.
لأن الحيوان يسير من خلال غريزته التي تأخذه نحو إعمال شق واحد من حسه. الإنسان خلق مع هذه الخاصية التي تجعله يعقل فيتدبّر فيكون إنساناً.
جرائم قتل، سفك للدماء، مشاجرات، مشاحنات، مسبات، خروقات، جحد، تنكر، حقد، كراهية…. قبلية حيوانية الطابع تغيب منها معالم الإنسانية.
الأخلاق في غيابها حيونتنا نحن معشر البشر.
من هنا أدخل في صلب الموضوع، أنسنه البشر أو حيونتهم، حيث إن الإنسانية صفة لا ترتبط بالضرورة بجنس البشر، أو بالأحرى لا تلازمه كصفة تكوينية.
موضوع الصحافي السعودي الذي قُلبت الدنيا من أجل حادث قتله الإجرامي المروع في قنصلية دولته السعودية، وحراك عالمي يتم هز دول فيه وتحريك عروش. في المقابل، هناك الحرب على اليمن.
حرب يشنها دعاة الإنسانية من كل درب على أهل اليمن من أطفال وأبرياء، تحت ذرائع لا تقل وهنا عن تلك الذريعة لقتل خاشقجي، ذلك الصحافي الإنساني الذي لم ير من الحرب على اليمن انتهاكاً للإنسانية، بل كان يشيد بحكم حكام بلاده الرشيد. الإنسانية نفسها كانت داعشية الطابع، وقاعدية الأساس عندما لم تر عيناه القتل الوحشي للأبرياء في سوريا والعراق… عندما كان حكام بلاده يتبعون الحكم الصالح والبناء. وقع خاشقجي ضحية أمنهم، عاش كمن يستطيع الأمن في وكر العقارب، لأنه كان يشبع حاجة تلك العقارب بزج سمومها بضحايا أُخر.
إنسانية خاشقجي المحدودة أودت بحياته على يد من أنسن جرائمهم.
إنسانيتنا نحن البلهاء من المتفرجين نحو العالم هي مكان السؤال هذا: ما الذي يدفعنا لنرى الأمور بمنظار بعين واحدة موجه نحو ما يقال لنا، ولا نرى بأم أعيننا ما هو جلي وندافع عنه.
لماذا هفتَت الأصوات أمام الإجرام السعودي في اليمن، وعلت عندما قُتل خاشقجي؟
هل نحتاج لمنشار وكتيبة مأجورين لنشعر بأن الخطر قد اقترب إلينا. ما يجري باليمن سفاح ومجازر، يطلقون الصواريخ والمدافع للقتل ويوجهون مأجوريهم من مركبات الطائرات الحربية نحو القتل المنهجي لأبرياء اليمن.
وما يقاس على خاشقجي واليمن، يقاس على ما يجري في فلسطين، من تداعيات مريبة في انهيار القضية الفلسطينية، من احتلال دائم إلى مصالح خاصة، تقوم قيامة الشعب بسبب قانون قد يمس بعض الشواكل من المدخولات، ونمسك في تسريب الأراضي والعقارات في القدس وكأن ما يجري من مصاب له إثر مؤقت والفعل فيه شخصي، ونتناسى بوعي أن تسريب عقار لا يختلف عن استباحة العرض، يخص المجمل لا الشخص. العقار المسرب يفقدنا جزءاً من شرفنا، من إنسانيتنا حتى، نترك العار والاستباحة وكأنه فعل عادي.
في حالة الحيونة الإنسانية هذه، تغيب القيم وتضيع الروح من فحوى الإنسان، وننتهي لنكون قطعاناً بشرية تسعى لقوت يومها على حساب كل من يعترض طريقها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.