"رجعوا على ظهورهم محملين في صناديق الغربة". نكأت هذه الندْبَة في جروح متقيحة لكل من سمعها تلاك على ألسنة أهالي الضحايا أثناء تشييع جثامين أبنائهم -الذين كانوا يسعون وراء لقمة العيش- في مقابر إحدى القرى الريفية في دلتا مصر.
فبعد إفاقة الزُّمرة الحاضرة -في مراسم الجنازة- من نشيجهم ونحيبهم وانتهائهم من المراسم الدينية، لاذ الجميع بالصمت لدفن آلامهم التي تدمي قلوبهم. وقبل العشاء، اصطف الأهالي في صف على سُدَّة الْمَسْجِدِ؛ لكي يأخذوا واجب العزاء.
وعلى صعيد آخر من الحدث المحزن، تململ بعض من الجالسين، وأخذوا يسترقون النظر إلى بعضهم البعض، وكأن كل فرد منهم يود الإفضاء بما لديه من تساؤلات يعلم إجاباتها مسبقاً، ولكنه يخشى أن تنكسر الملامح الجامدة المرسومه على وجهه في مثل هذه الأحداث، متأسياً بأصوله من ناحية، وحذراً من الانزلاق في خانات التساؤلات التي في النهاية ستؤول بالعزاء إلى باحة لمناقشة قضية مجتمعية تتعلق بالهجرة، والعمل في الخارج.. وإلخ من ناحية ثانية، فجثم جميع المتململين على صدورهم بالصبر، لحين الانتهاء من المراسم البروتوكولية، ولكن بمثابة تأديتهم واجب العزاء، وفرارهم من رسمية الرواق الذي يشهد مراسم العزاء، في لحظة كنت أترقب فيها قسمات وجوههم، دارت التساؤلات فيما بينهم كالمكوك،
وكانت التساؤلات من قبيل الآتي: (إيه اللي ودّاهم هناك في الظروف المنيلة دي؟ حد برده يسيب بلده عشان يموت هناك في بلد تانية بعيد عن أهله وييجي متشال في صندوق خشب؟ دول كانوا عيال صغيرة وكان المستقبل لسَّه قدامهم مين اللي ضحك عليهم ونصحهم بالسفر؟) تساؤلات اعتباطية محل هُراء كادت تزج بي في دوائر مساجلتهم، إلا أن تساؤلاً وجيهاً وُجّه من أحد السائرين في طريق العودة إلى أشغالهم درأ غيظي الذي كان سينصب عليهم -في صورة كلمات ما أنزل الله بها من سلطان- (هو إيه اللي حصل؟) تكفل بالإجابة الشافية على هذا السؤال صديق يكبرني بعقد من الزمن، وتجمعه بأهالي الضحايا قرابة حواشٍ، وسبق أن اضطرته ظروف الحياة المضنية إلى تجربة نيران الغربة في ليبيا ما بين (2010م إلى 2014م) وكانت إجابته -بعد تحويلي لها من العامية إلى الفصحى- فضفاضة شكلت ما يضاهي البناء النسقي وحدة بنائه الأسباب التي دفعتهم إلى السفر، وطريقة موتهم، ونظرة على تجربة سفره التي سبقت الثورتين المصرية والليبية بعام، فقال بعد أن تنهد: إلى كل المتسائلين: ماذا تريدون؟ ألا تكفيكم إراقة دمائهم؟
ولكن احتراماً لدمائهم؛ سأقول لكم الأسباب التي دفعتهم إلى السفر، هي نفسها الأسباب التي دفعتني إلى السفر منذ سنوات مع الاختلاف في الزمن، وفي الأشخاص، ونسبية الظروف، نعم من الممكن أن ظروفي كانت أفضل منهم آنذاك، من الممكن أنني آنذاك كنت أبحث عن رغد العيش، ولكنهم هم بحثوا عن الحد الأدنى من مقومات الحياة الآدمية، الخيارات كانت مفتوحة أمامي ما بين السفر بحثاً عن العيش الرغيد وبين العيش المتواضع الذي لا يحقق الطمأنينة لي ولأسرتي، أما هم فأظن كان لا خيار أمامهم سوى السفر للحياة تحت مظلة حياة تحترم آدميتهم، لذلك فالإِقْسَاء عليهم والتذرع بحفنة من الادعاءات المغلوطة لن يؤدي إلا إلى الإجحاف بهم، بل ينال من إنسانيتكم، أضف إلى ذلك أن السفر ما قبل 2011م في ليبيا يختلف تماماً عن السفر بعد ثورات الربيع العربي (الفورة الديمقراطية)،
قبل، كان السفر لأجل جمع الأموال، والمضايقات التي كنا نتعرض إليها محدودة للغاية من قبل الأجهزة الأمنية الليبية ما دمنا نتجنب كل ما يمت للسياسة، أما بعد، فالسفر بالنسبة لي بمثابة انتحار، بل دون مبالغة أنا أحتسب هؤلاء الشباب عند الله إن شاء الله من الشهداء، أليسوا هؤلاء الشباب سعوا وراء لقمة عيشهم مع علمهم أن الأوضاع هناك متوترة، ولا أبالغ إذا قلت سوداوية، وإن الجماعات الإرهابية تصول وتجول فيها ورغم ذلك خاطروا بأرواحهم في سبيل تحقيق حياة مطمئنة لأسرهم؟ بالعودة إلى الوراء قليلاً؛ أود الإيماء إلى أنني كنت سأقتل بعد الثورة الليبية، نعم المطعم الذي كنت أخدم فيه تعرض لسطو مسلح، وتمت سرقته، ولولا بصيص من الضمير كَمَنَ في فرد من أفراد السطو كنت قتلت على يد زميل له تأهب لإطلاق النار علي، لولا مقولة: (لا سيبه، ده غلبان، سيبه يخدم على نفسه)،
نعم، أنا أتذكر المقولة حرفياً؛ لأن هذه المقولة هي التي خولتني فرصة ثانية للاسترسال في متاعب الحياة، ولا أريدكم أن تتذكروا أن تهديد حياتي وقف عند هذا الحد، فالعناية الإلهية أنقذت حياتي أكثر من مرة، أما عن المصريين الآخرين فهناك من انتهى أجله حتى ذلك، فلم يستطع الفرار -من هذه الوقائع- من قدره، فرجع على ظهره، ولم يجنِ من سفره سوى الصناديق الخشبية (صناديق الغربة)، فلِمَ التقريع؟ ألقوا اللوم على الظروف التى آلت بهم إلى جثث هامدة محملين في صناديق الغربة، ألقوا اللوم على من لم يباشر دوره في تلبية لهم الحد الأدنى من العيش في حياة آدمية، هيهات أن تصلوا إلى الحقيقة دون أن تحكموا ضمائركم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.