للصداقة صفات حقيقية تتبعها، وتنبعث وراءها كجريان الماء في منحدره، سمَّاها "حب في الله" جُمع بين سطور هذه الحياة، فهي نبع من العطاء، رمز للإخوة والوفاء، ونجم يتلألأ بالسماء، وما أجملها من علاقة! حين يكون عطرها الحب، والإخلاص، وما أروعها من صلة! حين تكون مبنية على الثقة والتعاون والألفة والمؤازرة، فهي رأس المال، والقوة في وقت الضعف، والأمن في وقت الخوف، والطاقة في وقت الوهن، فيها ترتقي المشاعر الإنسانية الراقية.
هي تفاعل روحيّ بامتياز، وحوار عقلانيّ متّزن، تُدخل الإنسان في علاقة متينة ووثيقة مع من يصبح مرآتك الحقيقيّة.
الصّديق هو من يدلّك على ذاتك، يبحث فيك عن جمالك الحقيقيّ، ويصوّب لك هفواتك وأخطاءك؛ لأنّه يريد ما هو خير لك، يدعمك ويقف بجانبك حتى حين يتخلّى عنك الجميع، ويمكنك أن تعتمد عليه في الوقت الذي يتفاداك جميع مَن حولك، فالحياة زاد، وخيرُ زادِهَا صديقٌ يهونُ عليكَ مرارةَ الأيامِ وقسوتها، ويأخذ بيدكَ إلى جميل الدنيا وحُلوِهَا من ذي قلب أبيض، يشف ظاهره عما يعتري باطنه.
أولئك الذين يحبوننا على ما فينا من علل وأخطاء، وينصحوننا كلما هفونا أو انحرفنا عن مسار الرقي والنهوض، يقيلون عثراتنا، ويصححون أخطاءنا وكما قيل: (لا تصحب إلا مَن إن صحبته زانك، وإن حملت مؤونة أعانك، وإن رأى منك ثلمة سدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن سألته أعطاك، وإن تعففت عنه ابتداك، وإن عاتبك لم يحرمك، وإن تباعدت عنه لم يرفضك).
و قد صدق من قال: سَـلامٌ عَلى الدُّنْيـا إِذَا لَمْ يَكُـنْ بِـهَا صَـدِيقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الوَعْدِ مُنْصِفَـا
ليست الصداقة البقاء مع الصّديق وقتاً أطول، بل هي أن تبقى على العهـد حتّى وإن طالت المسافات أو قصرت.
هي من أسمى العلاقات الإنسانيّة؛ فوجود شخصٍ في حياتك يكون بمثابة الأخ أو الأخت، تخبره بكلّ ما يجول بخاطرك، وتتحدث إليه كأنك تُحدث نفسك، تشكو إليه همومك وتشاركه أفراحك.
وكلما كان الصديق أشد حباً ومودة لصديقه كان أعظم منزلة عند الله تعالى، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: "ألا أخبركم بأشبهكم بي خلقاً؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: أحسنكم خلقاً وأعظمكم حلماً، وأبرّكم بقرابته، وأشدكم حباً لإخوانه في ربه، وأصبركم على الحق، وأكظمكم للغيظ، وأحسنكم عفواً، وأشدكم من نفسه إنصافاً".
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ)؛ حيث يلتقي الأصدقاء، فقد جاءوا إلى الآخرة وليس في قلوبهم أيّ حقد، بل كانت المحبّة تغمر قلوبهم؛ لأنّ محبة الإنسان لله تجعله يحبّ الناس الذين يلتقي بهم ليتعاون معهم، ويحبّ الناس الذين يختلف معهم ليهديهم، ولذلك فأن تكون مؤمناً يعني أن تغمر المحبة قلبك، فلا مكان للحقد فيه. وهذا ما تعلمناه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما كان يواجه قومه وهم يؤذونه، وهو يقول: "اللّهمّ اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون". فالذين لا يحملون الغلّ في قلوبهم هم الأتقياء حقّاً، الذين يحبّون الله سبحانه وتعالى فيحبّون خلقه "الخلقُ عيال الله فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على بيت سروراً".
فاللهم ارزقنا من هذا المنهل العذب، واجعلنا نلتقي بأصدقائنا وأحبابنا على سُرر متقابلين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.