اختفى المعارض السعودي المعروف، والناقد لنظام الحكم، الصحافي جمال خاشقجي من داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في الثاني من شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري. وقد اشتبه مسؤولون أتراك في ملابسات اختفائه بأنه تعرض للقتل المتعمد. في حين تُشير التطورات الأخيرة بوضوح إلى أنه قتل داخل القنصلية من قبل فرقة قتل سعودية مؤلفة من 15 عضواً، بناءً على أوامر من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
أصاب مقتل خاشقجي العالم بصدمة، إلا أن ذلك لم يكن مُفاجئاً للأشخاص المطلعين على طبيعة المملكة السعودية الدينية الأشبه بالعصور الوسطى – تلك الحقبة الزمنية من تاريخ أوروبا التي اتّسمَت بالمصاعِب والمعاناة والكوارِث، والمجاعات والحروب. إذ تشتهر المملكة العربية السعودية بالتعصب المقلق إزاء المعارضة وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية.
ازدادت حدة التعصب بشكل ملحوظ بعد أن ارتقى محمد بن سلمان، الابن المفضل للملك سلمان بن عبدالعزيز، منصب وليّ العهد في يونيو/حزيران من العام الماضي، بعد إجبار ابن عمه وولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف على إفساح المجال له.
يعتبر ابن سلمان، ولي العهد الشاب الذي يتسم بالطموح الشديد، في الواقع الحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية. وهو يشغل عدداً من المناصب القوية الأخرى، بما في ذلك النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع. وهو المهندس الرئيسي والمخطط للحرب التي شنتها المملكة العربية السعودية على اليمن، وهو زعيم سعودي مناهض لإيران بكل وضوح، وشريك مُقرب من الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
في غضون عام واحد فقط من توليه منصب وليّ العهد شن بن سلمان حملة هائلة واسعة النطاق ضد الفساد، قيل إنها بغية معاقبة منتقديه، واعتقل العشرات من أفراد العائلة المالكة والوزراء السابقين وقادة الأعمال. ولا يزال الكثيرون منهم قابعين في السجون.
فقد اعتقلت الناشطة الحقوقية السعودية في مجال حقوق المرأة لجين الهذلول من أبوظبي وأعيدت إلى المملكة في شهر مارس/آذار من هذا العام. وتعرض المنتقدون للقيادة السعودية للاختطاف والتعذيب في الماضي، بمن فيهم المنشقون عن العائلة المالكة الذين كانوا يعيشون في أوروبا. ويجري أيضاً اعتقال الزعماء الدينيين السعوديين البارزين الذين يُعارضون حكم العائلة المالكة ومعاقبتهم بشكل منتظم.
مقتل خاشقجي
تُعد قضية مقتل خاشقجي حادثة مروعة لمجموعة متنوعة من الأسباب. فهي رسالة تقشعر لها الأبدان لجميع المنشقين السعوديين الذين يعيشون في المملكة أو خارجها. مفادها أن ابن سلمان لن يتسامح مع أي شخص يجرؤ على انتقاده. وربما تستشعر المعارضة السعودية الداخلية، المعروفة باسم الصحوة، إقبالها على مستقبل قاتم للغاية، وقد تُجبر على البقاء بعيدة عن الأضواء.
لا يستثنى المواطنون الأجانب الذين ينتقدون القيادة السعودية من ذلك أيضاً. ففي العام الماضي، اعتُقل اثنان من الصحافيين الأجانب يعملان لدى قناة "تي أر تي وورلد" (TRT World) التركية الحكومية، الناطقة باللغة الإنكليزية، كانا برفقة وزير الشؤون الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو في زيارة للمملكة في أعقاب الحصار الذي قادته السعودية على قطر، ولم يُطلق سراحهما إلا بعد أن أثار تشاويش أوغلو القضية بشكل مباشرة مع الملك سلمان بن عبدالعزيز.
ومما يدعو إلى الشعور بمزيد من الجزع، هو أن جريمة قتل خاشقجي تفضح الوجه القبيح للأمير محمد بن سلمان. كما أن شروعه بتنفيذ عملية قتل على أرض أجنبية يكشف عن عدم احترامه للقواعد الدبلوماسية والقوانين الدولية. فقد تمت عملية القتل هذه بدم بارد، ويبدو أن العالم كله يفتقر إلى الجرأة! لو لم يكن خاشقجي من أشد منتقدي محمد بن سلمان، وتجمعه علاقات بشبكة واسعة من الصحافيين وأقطاب الإعلام والدبلوماسيين، لمرَّت جريمة قتله دون أن تُحدث مثل هذه الضجة الكبرى حول العالم.
تاريخ العائلة المالكة في استخدام القوة والعنف
تُعبر علاقة حب العائلة المالكة السعودية للقتل والخطف والقمع الوحشي للمعارضين، كثيراً عن الطريقة التي استولت بها على السلطة في شبه الجزيرة العربية وقناعاتهم الأيديولوجية. فقد أسس الملك عبدالعزيز المملكة العربية السعودية عام 1932 عن طريق الاستخدام المطلق للقوة – أولاً، بهزيمة منافسيه القبليين وقتلهم في منطقة نجد التي تقع في مركز المملكة العربية السعودية، ثم إخضاع المنطقة الشرقية الغنية بالنفط التي يهيمن عليها الشيعة، بشكل دائم في عام 1913، وأخيراً بغزو مقاطعة الحجاز في عام 1926.
تؤمن العائلة المالكة السعودية بأنهم أسسوا مملكتهم بحد السيف، وأن المملكة هي إقطاعيتهم العائلية التي يتعين عليهم الدفاع عنها أيضاً بحد السيف. وهذا يعني أنهم يعانون من خوف متفشٍّ من أنهم لن يستطيعوا البقاء دون قمع خصومهم المحليين والخارجيين، إما بمفردهم أو بالتعاون مع بلدان أجنبية.
أما الذراع الأيديولوجية للعائلة المالكة، وهو ما يسمى الوهابية، فقد أسيء استخدامه بشكل فاضح من أجل قمع المنشقين وإسكات المعارضة. وهناك نسب تاريخي يجمع الجانبين. إذ ترتبط نصوص وخطب الداعية الديني محمد بن عبدالوهاب ارتباطاً مباشراً بالمدرسة السنية الأشعرية التي انتشرت في القرن العاشر، وهي المدرسة السنية المهيمنة على الفكر والمعروفة بموقفها المُعادي للعلم ومعاداة النهج العقلاني والفلسفي.
من الناحية التاريخية، استخدم العديد من الحكام المسلمين في الشرق الأوسط المنطق الأشعري المناهض لحرية التفكير من أجل القضاء على الأفكار السياسية المستقلة، والمنهج الاستدلالي، باعتباره مصدراً خطيراً للتحديات التي تواجه حكمهم، وهو ما يعني بوضوح أنه لا يمكن انتقاد الحكام على الإطلاق، ناهيك عن التصدي لهم ومواجهتهم. وغالباً ما تصدر المؤسسة الدينية الوهابية السعودية، المنبثقة من المدرسة الأشعرية، فتاوى لدعم قمع المعارضة من قبل الحكام السعوديين.
ما الذي ينتظر بن سلمان الآن؟
من المرجح أن تطارد حادثة خاشقجي الحكام السعوديين لبعض الوقت. لقد أقحمت المملكة نفسها في مواجهة الضجة والمخاوف الدولية من خلال حادثة أدت إلى تشويه صورتها. وأصبحت الصورة التي خلقتها السعودية لنفسها هي صورة دولة قاتلة. ولكن، هل يستطيع محمد بن سلمان التخفيف من حدة هذا الحادث المروّع؟
يتوقف الكثير على كيفية إدارة علاقته مع الرئيس ترمب، وتركيا التي تعتبر منافساً إقليمياً للمملكة. فقد استجاب الرئيس الأميركي لحادثة مقتل خاشقجي بوصفها بأنها "وضع سيئ". وجاءت ردود الأفعال الأكثر حدة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركيين المؤثرين الذين هددوا بفرض عقوبات على "أعلى مستوى" على القيادة السعودية ووقف مبيعات الأسلحة إلى المملكة. وإذا ما نجح أعضاء مجلس الشيوخ في الضغط على ترمب لإحالة قضية خاشقجي إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لفرض حظر على سفر محمد بن سلمان أو فرض عقوبات على السعودية، فإن ذلك سينهي فعلياً طموحه في اعتلاء العرش بعد وفاة الملك سلمان. بيد أن ذلك ليس من المرجح أن يحدث، استناداً إلى سببين على الأقل.
يبدو أن الرئيس ترمب متردد في قطع العلاقات الاقتصادية مع المملكة، ووقف الاستثمارات السعودية في الاقتصاد الأميركي. وبدلاً من ذلك، فهو حريص على تنفيذ صفقات الأسلحة التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، والتي تبلغ قيمتها 110 مليارات من الدولارات، على نحو سريع. وحتى الآن، لم يلتزم محمد بن سلمان بتنفيذ صفقات الأسلحة هذه بجدية. خلقت حادثة مقتل خاشقجي، بشكل تلقائي، فرصة فريدة لترمب للضغط على محمد بن سلمان لشراء الأسلحة بسرعة أو مواجهة العواقب. ومن المرجح أيضاً أن يجبر ترمب ولي العهد على مواصلة حشد الدعاية المناهضة لإيران واتخاذ إجراءات ملموسة ضدها.
يطمح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تحقيق الكثير من المكاسب أيضاً من ذلك الوضع. فقد زاد من الضغط على الحكام السعوديين بقوله إن أنقرة "لا يُمكن أن تلتزم الصمت إزاء مثل هذا الحادث"، لكنها وافقت في وقت لاحق على تشكيل لجنة سعودية تركية مشتركة للتحقيق في ملابسات اختفاء خاشقجي. وقد شككت منظمة العفو الدولية لحقوق الإنسان في التزام اللجنة بالحيادية وقدرتها على إصدار تقرير حقيقي عن نتائج التحقيقات.
من المرجح أن يستخدم محمد بن سلمان اللجنة المشتركة كوسيلة لإرجاء تقديم التقارير أو شراء دعم تركيا من خلال مفاوضات سرية لدفن حادثة خاشقجي.
ومن المرجح أيضاً أن يستغل الرئيس أردوغان تلك الحادثة باعتبارها فرصة كبيرة لدفع ولي العهد السعودي إلى الالتزام بتخصيص مليارات الدولارات من الاستثمارات الجديدة في الاقتصاد التركي، ما يمنحه بعض المجال للمناورة من أجل التغلب على العقوبات الأميركية الأخيرة – التي تمثلت في الهجوم على الليرة التركية. وقد يشمل جانب آخر من الصفقة التفاوض بشأن نهاية الحصار الذي تقوده السعودية على دولة قطر، التي تُعد الحليف الخليجي الصامد لتركيا.
من المتوقع أن يتجاوز محمد بن سلمان حادثة اغتيال خاشقجي، إذا كان على استعداد لدفع ثمن باهظ لمساعدة الولايات المتحدة في ظل حكم ترمب، ومساعدة تركيا في ظل حكم أردوغان. وهذا على الأقل من شأنه أن ينقذه من خسارة العرش.
إذا اتخذت التطورات مساراً مختلفاً نحو تحقيق العدالة، فسيكون ذلك بمثابة مصدر ارتياح كبير، لأنه يشير إلى أنه حتى الحكام الأقوياء المستبدين لا يمكنهم تجاوز الخطوط الحمراء.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع The Globe Post الأميركي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.