القول "إن الصديق الوفيّ يُستبان في المِحن" يُقصد به أن الصداقة لا يتبيّن الوفاء فيها سوى عندما تنعدم الفائدة ليحلّ محلّها عبء مساعدة صديقٍ يواجه محنة عظمى. أما المشهد المقيت الذي ينكشف أمام أعيننا في هذه الأيام في تملّق الكثيرين لحكام السعودية إزاء الفضيحة المدوّية الناتجة عن اختفاء الصحافي والمواطن السعودي جمال خاشقجي، فلا يمتّ إلى المشاعر النبيلة بصلة، بل يندرج في باب المصلحة والانتفاع المعهودين في العلاقة مع حكام اعتادوا شراء الصداقات وعوّدوا زبائنهم بيعها.
وأهمّ المواقف النفعية على الإطلاق في هذا المجال موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يتستّر وراء مصلحة اقتصاد بلاده ليبرّر تواطؤاً مع حكام المملكة ينجم عن المصالح الوطيدة التي تربط مشاريعه الخاصة بهم منذ سنين عديدة، وقد أنقذه السعوديون من بعض الورطات المالية واحتمالات الإفلاس، كما بيّنت الصحافة الأميركية بإسهاب في استعراضها للعلاقة بين آل ترامب وآل سعود بمناسبة الفضيحة.
وتنضاف إلى المصلحة المالية في حالة ترامب، مصلحة سياسية تتمحور حول شخص وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان الذي هو أكثر أعضاء العائلة السعودية الحاكمة استعداداً للتواطؤ المكشوف مع ترامب وصديقه الحميم رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو في الطعن بمصالح الشعب الفلسطيني.
وفي وقت كتابة هذه الأسطر بالذات، يجتمع مايك بومبيو، وزير خارجية ترامب الحالي ومدير وكالة الاستخبارات المركزية لديه حتى الربيع الماضي، بالمسؤولين السعوديين كي يُخرج معهم سيناريو "القتلة المارقين" الذي أعلنه ترامب إثر مكالمته الهاتفية مع العاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز. والغاية من هذا السيناريو تبرئة وليّ العهد، بالرغم من أن الصحافة الأميركية أشارت إلى امتلاك أجهزة الاستخبارات الأميركية تسجيلاً لمكالمات تؤكد مسؤولية محمد بن سلمان الشخصية والمباشرة عن اختفاء الصحافي.
يلي ترامب في أهمية المواقف النفعية موقف الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الذي لعب من وجهة نظري لعبة مثيرة للشك منذ الإعلان عن اختفاء الخاشقجي. فقد سرّبت أجهزته الأمنية معلومات عن أدلّة دامغة بحوزتها تُثبت قتل الصحافي بسابق تعمّد ثم تقطيع جثته في القنصلية السعودية بإسطنبول، وذلك من قِبَل طاقم جاء في زيارة خاطفة إلى المدينة لهذا الغرض بالذات. وكانت قناة التسريب الرئيسية صحيفة "صباح" شبه الرسمية، التي تملكها شركة يديرها صهر الرئيس التركي ويرأسها أحد المقرّبين إليه. وبقي الرئيس التركي يُعرب في الوقت نفسه عن نواياه الطيّبة إزاء المملكة ورغبته في تعاون أجهزته وأجهزتها في كشف ملابسات الاختفاء. ومن الواضح تماماً أن السيناريو الذي يجري الإعداد لإعلانه لا يمكنه سوى أن يكون ثمرة كتابة مثلّثة أميركية وتركية وسعودية، إذ إن امتناع أيٍّ من أنقرة أو واشنطن عن المصادقة عليه من شأنه أن يُبطل مفعوله.
وقد نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" يوم أمس عن المثقّف الفلسطيني المعروف عزّام التميمي، صديق جمال خاشقجي وآخر من رآه قبل اختفائه، باستثناء خطيبته التركية، قوله إن نظرية "المارقين" لها أثر "كارثي" على مصداقية الرئيس التركي. وقد أضاف التميمي حسب الصحيفة: "لقد سرّب الأتراك كمّاً من المعلومات يصعب معه تصوّرهم القبول بأقل من إبلاغ العالم بما حصل حقاً". والحال أن تصرفات الرئيس التركي مثيرة للتساؤل في نظر كل من تابع انعطافاته التي لا تُحصى، سواءً في السياسة المحلية التركية أو في الملّف السوري أو أخيراً في شأن الإفراج عن القسّ الأميركي. ويوحي توقيت هذا الحدث الأخير بتكامل شروط صفقة لن نتأخر في معرفة شروطها، وقد تتضمن ما يتعلق بإخراج الاقتصاد التركي من أزمته الراهنة.
أما عدا واشنطن وأنقرة، فقد رأينا جملة من الأوفياء لدولارات المملكة والمرتهنين بها يتسابقون على إعلان تضامنهم مع حكامها، منهم حكومات البحرين والأردن ومصر، وفي أسفل القائمة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، يليه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس. وقد بلغ هذا الأخير الحضيض بتعمّده ذكر وليّ العهد السعودي بالذات. فحسب وكالة الأنباء الفلسطينية وفا، لم يكتفِ عبّاس بالتأكيد على "تقديره للمواقف الثابتة للمملكة العربية السعودية الشقيقة، التي وقفت وتقف دوماً إلى جانب قضيتنا العادلة، وحقوق شعبنا الثابتة"، بل عبّر عن "ثقته المُطلقة بالمملكة العربية السعودية الشقيقة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، ووليّ عهده سمو الأمير محمد بن سلمان". ويبدو أن تآمر وليّ العهد السعودي مع صهر الرئيس الأميركي وبنيامين نتنياهو على محاولة تصفية قضية الشعب الفلسطيني لا يكفي للحؤول دون ثقة عباس المطلقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.