تتحمل النساء وطأة التاريخ العراقي الحديث الكارثي.
على الرغم من التقدُّم المبكر الذي حقَّقه العراق في مجال حقوق المرأة ، بما في ذلك أنَّ العراق كان أول بلد في العالم العربي لديه امرأة تتولى منصب وزيرة في عام 1959، وسُمح للنساء العراقيات بالتدريب كطبيبات منذ مائة عام تقريباً، تراجع المجتمع العراقي عدداً من الخطوات إلى الوراء في مجال المساواة بين الجنسين وحقوق المرأة في العقود الأخيرة.
اليوم، تحاول العديد من النساء العراقيات الوفاء بالتزامات العمل والواجبات العائلية الطاغية دون مساعدة كبيرة من الرجال، إذ يضطر بعضهن إلى رعاية أطفالهن ووالديهنَّ وأشقائهن جميعاً بأنفسهنَّ، بينما يواصل الرجال حياتهم في القتال والموت على جبهات عسكرية متغيرة بشكلٍ دائم. وما يجعل الأمور أسوأ أنَّ معظم أشكال العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي يشيع حدوثها أيضاً في العراق. في السنوات الأخيرة، ذبحت ميليشيات دينية عشرات من المُشتغلات بالجنس، وعذَّبت صحافيات في بغداد. وفي هذه الأثناء، استعبد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الآلاف من النساء الأيزيديات، اللاتي لا تزال الكثيرات منهنَّ مفقودات حتى الآن.
وظهر اتجاه مقلق آخر في الشهرين الماضيين: اغتيلت أربع نساء بارزات بين شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول. وبينما كنَّ يعشن في مدن مختلفة ويشغلن مهناً مختلفة، جمعتهن فقط سمتان مشتركتان وهما أنهن جميعاً نساء وناجحات في مجالاتهن الخاصة.
اغتيلت تارة فارس، إحدى أبرز نجوم شبكات التواصل الاجتماعي في العراق، في وضح النهار، في 28 سبتمبر/أيلول، وقُتلت سعاد العلي، الناشطة في مجال حقوق الإنسان (التي لا أملك شرف وجود صلة عائلية بها)، في 25 سبتمبر/أيلول، وشَهِد العراق أيضاً مقتل الشخصية العامة وخبيرة التجميل رشا الحسن، في 23 أغسطس/آب، وتوفيت رفيف الياسري وهي أيضاً خبيرة تجميل تمتلك عيادة خاصة بها، في ظروف غامضة في 16 أغسطس/آب. وصفت السلطات العراقية في البداية وفاة الياسري بأنَّها جراء تناول "جرعة زائدة من المخدرات"، لكنها لم تقدم تحديثاً لما آلت إليه التحقيقات، مما أدى إلى تداول شائعات بأنَّها قد تكون سُمِّمت.
وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول، قُتلت امرأتان أخريان في البصرة، أحداهما صاحبة صالون تجميل والأخرى ناشطة. بدا القتلة في كل هذه الحالات مُدرَّبين تدريباً عالياً، مما دفع قوات الأمن إلى الاعتقاد بأنَّ هذه الهجمات لم تكن عشوائية. كما تلقَّى عدد من النساء البارزات الأخريات تهديدات بالقتل.
الاستجابة الاجتماعية
لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت عمليات القتل هذه جزءاً من مؤامرة واحدة، لكن جميعها أَرسَلت للنساء العراقيات رسالة لا ريب فيها، مفادها: "يجب ألا تسعى المرأة إلى الخروج عن الحدود التقليدية التي رسمها المجتمع".
حتى يومنا هذا، يعاني العديد من الرجال العراقيين من رجولة هشة، ويرون في نجاح المرأة المهني تهديداً. قد يترجم هذا إلى تهديدات ملموسة وهجمات في حالات معينة. ويزيد انتشار الأسلحة والجماعات العسكرية النظامية وغير النظامية في العراق الأمور سوءاً. هذا يجعل بعض النساء العراقيات متردِّدات في متابعة طموحاتهن المهنية. وهذا هو السبب في أنَّه من المعقول الافتراض أنَّ الموجة الأخيرة من جرائم قتل النساء ستضيف إلى هذه المخاوف، وتجعل بعضَ النساء يُعدن النظر في تطلعاتهن المهنية.
ومع ذلك، ثمة أسباب للتفاؤل؛ إذ أثارت أعمال القتل استجابةً اجتماعيةً واعدة. أدان المجتمع العراقي على نطاق واسع جرائمَ القتل، وانتقدوا المُعلقين القلائل الذين حاولوا رفض إدانة تلك الجرائم وتبريرها. وقد كتب مقدم البرامج التلفزيونية، حيدر زوير، على شبكة التواصل الاجتماعي تويتر أنَّ الناس عليهم أن يكفّوا عن الحديث عن مقتل تارة فارس، واصفاً إياها بأنَّها "عاهرة وانكتلت" (في إشارة إلى أنَّها أولاً تستحق القتل، وثانياً أنَّ الجريمة لا تستحق التحقيق فيها). كانت الاستجابة سريعة وغاضبة، لا سيما على شبكات التواصل الاجتماعي. إذ أدان الآلاف تصريحاته، واضطرت جهة توظيفه في النهاية إلى وقفه عن العمل. وقد صرَّحت شخصيات رفيعة المستوى، بما في ذلك بعض أشهر الشخصيات على شبكات التواصل الاجتماعي في البلاد، بأنَّ أي محاولة لتبرير جرائم القتل ترقى إلى مستوى تواطؤ.
وقد أظهرت ردود الفعل هذه أنَّ المواقف تجاه النساء بدأت تتغير في العراق، وأنَّ قطاعات أكبر من المجتمع ترفض التسامح مع العنف ضد النساء الناجحات. هذه خطوة مهمة حتى لو كانت صغيرة، وستتطلَّب بذل جهد أكبر لإحراز مزيد من التقدم. يمتلئ المجتمع العراقي بالكثير من الحواجز الصعبة بالنسبة للنساء وأشكال التمييز الصريح والخفي القائم على أساس النوع الاجتماعي. يعاني الرجال والنساء في العراق من آثار النزاعات المستمرة، ولم يُبذل أي جهد لدراسة الآثار التي خلَّفها ذلك على حقوق المرأة. علاوة على ذلك، لم يحاول أحد صياغة، ناهيك عن تنفيذ، استراتيجية مقنعة يمكنها تحسين وضع حقوق المرأة في البلاد.
سيادة القانون
إحدى الطرائق الواضحة جزئياً لمعالجة العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي في العراق هي تحسين سيادة القانون. إنَّ وضع حقوق الإنسان في العراق هشّ بشكل واضح وبالغ السوء. تذكر عشرات، إن لم يكن مئات، التقارير بشكل تفصيلي مدى ضعف جهاز الشرطة والمدعين العموميين والقضاة، وعدم فاعليتهم في مقاضاة السلوك الإجرامي. ولا تزال أساليب التحقيق محدودة، ولا تزال المحاكمات تعتمد بشكل كبير على الاعترافات القسرية، ولا تُحقّق السلطات في مزاعم التعذيب بشكلٍ عام.
لكن الأهم من كل ذلك هو شعور الإفلات من العقاب المُهيمن على الطبقة السياسية في العراق، إذ بالكاد يُتَّخذ أي إجراء لمواجهة الأنشطة المشبوهة للجماعات المسلحة المرتبطة بالقوى السياسية الرئيسية في البلاد. وقد شهدت البلاد مقتل محامٍ كان قد عرض الدفاع عن المتظاهرين وقادة الاحتجاج (التي كانت سعاد العلي واحدة منهم) في أعقاب أحدث جولة من الاحتجاجات في البصرة. وبعد كل عملية اغتيال لشخصية بارزة، يعلن المسؤولون الحكوميون دائماً أنَّ التحقيقات قد بدأت، لكن ينتهي الاهتمام بها كلها تقريباً بمرور الوقت. حتى التحقيقات التي أُنجزت لم تقد إلى أي شكل من أشكال المساءلة السياسية.
تُعد عملية تشكيل الحكومة العراقية الحالية فرصةً لتحريك مؤسسات الدولة في الاتجاه الصحيح. إنَّ النساء العراقيات من جميع مستويات المجتمع في حاجة ماسة للحماية، والدولة لديها فرصة الآن لبدء عملية تغيير ضرورية من خلال إصلاح المؤسسات القضائية وتفعيل حكم القانون. لم تلتزم أي من الحكومات العراقية السابقة باستراتيجية متماسكة لتحسين حقوق المرأة، لذلك إذا كان هناك شيء واحد تستطيع الحكومة المقبلة فعله فهو إعطاء الأولوية لهذا المجال، لصالح المرأة العراقية.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع شبكة "الجزيرة" القطرية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.