كلما جلست إلى أحد المثقفين من المغرب الشقيق، لا بد من أن يصل بنا الحديث إلى أحد أقدم الملفات المغاربية تعقيداً وأطولها أمداً وهو ملف الصحراء الغربية، القضية التي لم تنتهِ يوماً؛ بل تختفي فتراتٍ لتعود مجدداً إلى الواجهة بمجرد صدور تصريحات من الرباط أو من الجزائر العاصمة. هذه الأزمة تعايش معها جيلان، على الأقل، من شعبين تجمعهما روابط الدم والتاريخ والدين أكثر مما تفرّقهما المصالح السياسية، التي طغت وأفسدت كل محاولات التقارب بين الجزائر والمغرب.
قبل الحديث عن الخلاف بين الجارتين، يجب أولاً قلب صفحات التاريخ للغوص في بعض الأحداث والحقائق التي أوصلت العلاقات بين الطرفين إلى طريق مسدود .
إن التراكمات التاريخية هي أهم عوامل الخلاف بين البلدين، فلو رجعنا قروناً مضت لوجدنا أن السبب الرئيسي يكمن في قضية رسم الحدود المغربية مع الجارة الجزائر؛ فالمغرب خلال عصر الدولة السعدية كانت سلطته تمتد طبقاً لنظام البيعة إلى بلاد شنقيط (موريتانيا) وجزء كبير من مالي، بالإضافة إلى تندوف في الجزائر، ولكن الاستعمار الفرنسي أعاد رسم الحدود بطريقته الخاصة، واقتطع بعض المناطق وضمَّها إلى دول أخرى حسب مطامعه الاستعمارية.
فبعد اكتشاف مناجم الحديد والمنجنيز، قررت فرنسا سنة 1950 ضمَّ كلٍّ من كولومب بشار وتندوف إلى مستعمرتها بالجزائر، ما أثار غضب المغرب، الذي أراد استرجاع أراضيه عن طريق المفاوضات السلمية مع فرنسا والتي باءت بالفشل، فقرر المغرب حينها اللجوء إلى الجزائر لاستعادة أراضيه دون أدنى مجهود أو تضحية.
وفي 6 يوليو/تموز 1961، وقَّع المغرب مع رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، التي كان يمثلها فرحات عباس آنذاك، اتفاقاً مبدئياً ينص على حل مشكلة الحدود بين البلدين بمجرد نيل الجزائر استقلالها، ولم تكن الأجواء وقتها مناسبة للجزائريين، خصوصاً أن الوضع كان متوتراً قبيل استقلال الجزائر بقليل، وهذا ما رفضه لاحقاً الرئيس الجزائري أحمد بن بلة جملةً وتفصيلاً، معتبراً الأراضي التي يريد المغرب استرجاعها حُرِّرت بدماء جزائرية وكان أولى للمغرب أن يحمل السلاح ضد فرنسا لاسترجاع ما سلبه المستعمر منه؛ فالجزائر لا تحارب بالنيابة عن أحد، وهذا أيضاً ما اعتبره المغرب خيانةً للاتفاق المبرم مع فرحات عباس وخيانة للمساعدات التي قدمها المغرب للثورة الجزائرية المجيدة.
وهكذا، بدأت أولى بوادر النزاع بين البلدين، وقد وقفت العديد من دول العالم مسانِدةً للجزائر، على رأسها مصر بزعامة جمال عبد الناصر، الذي انتقد النظام الملكي المغربي بشدة، ووصفه بالرجعي وبأنه يمارس سياسة الدول الإمبريالية نفسها، كذلك وصفه الإعلام المصري آنذاك.
تسارعت الأحداث، وفي خطوة غير مدروسة هاجمت قوات عسكرية جزائرية أحد المراكز العسكرية المغربية وقتلت عدداً من الجنود، فجاء الرد سريعاً بأنْ دخل البلدان في حرب سُميت "حرب الرمال" سنة 1963، التي أسهمت كل من جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية في إخمادها.
لم يكن هذا هو السبب الوحيد في خلق جو العداء والتوتر بين البلدين، فالجزائر لم تسامح يوماً المغرب الذي ساعد المخابرات الفرنسية في خطف الطائرة التي كانت تقلّ الثوريين الجزائريين وهم أعضاء المكتب الخارجي لحزب جبهة التحرير الجزائري في أكتوبر/تشرين الأول 1956، وما زاد الطين بلة هو الاتفاق الذي وُقّع بين موريتانيا والمغرب بخصوص اقتسام الصحراء، وحصل ذلك دون استشارة الجزائر سنة 1974، فكان ردُّ الجزائر أن دعمت جبهة البوليساريو الصحراوية الرافضة للسيادة المغربية، ووقفت في وجه المغرب، الذي يَعتبر الأراضي الصحراوية جزءاً لا يتجزأ من أراضيه.
وفي المقابل، لم توفر الجزائر جهداً دبلوماسياً أو سياسياً أو حتى عسكرياً لدعم القضية الصحراوية، وصرحت بأن لا مطامع لها في الصحراء، لكنها تدعم بقوةٍ فكرة تصفية الاستعمار مهما كان شكله في المنطقة، باعتبار أن الجزائر أهم دولة في العالم حاربت من أجل دحر العبودية والاستعمار، واعتبرت الشعب الصحراوي له الحق في تقرير مصيره، وذلك ما أقرته أيضاً محكمة العدل الدولية في هذا الخصوص.
بقي ملف الصحراء الغربية عالقاً في أروقة الأمم المتحدة، ولم تلقَ المقترحات المطروحة من مبعوثيها لحل الأزمة بين جبهة البوليساريو والمغرب أي تشجيع؛ بل العكس زادت حدة الأزمة بين الجارتين؛ الجزائر والمغرب، بعد تفجيرات فندق آسني بمراكش سنة 1994، حيث وجهت السلطات المغربية اتهامات مباشرة للمخابرات الجزائرية بأنها تقف وراء العملية، وفرضت حينها تأشيرة دخول على المواطنين الجزائريين، لكن الجزائر كان ردّها أعنف بكثير، فأغلقت الحدود البرية مع الجارة المغرب كردٍّ تأديبي، استمر سنوات والى يومنا هذا.
وبقي الطرفان بين الحين والآخر يشيران بأصابع الاتهام بعضهما إلى بعض؛ فالمغرب يتهم الجزائر بتهديد وحدته الترابية، وجعل من موضوع الصحراء قضية وطنية علّق عليها وأجَّل بسببها كل مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي المقابل، لا تزال السلطات الجزائرية تتهم المغرب بإغراق الجزائر بمئات الأطنان من المخدرات التي تدخل عن طريق التهريب على الحدود الجزائرية.
اختلف البلدان كثيراً ولم يتفقا إلا على نقطة واحدة؛ وهي امتلاك أكبر كمية من السلاح والعتاد؛ ربما استعداداً لحرب لن تنفع أحداً ولن تغير من الوضع الاقتصادي والاجتماعي السيئ في كلا البلدين؛ فالجزائر التي تعد أغنى الدول الإفريقية والتي تحتل المرتبة الرابعة عالمياً في إنتاج الغاز الطبيعي يعيش نحو 20% من سكانها تحت خط الفقر، وهذا أمر كارثي، وليس بعيداً أن يصل عدد الأميين في المغرب إلى 10 ملايين شخص؛ أي إن ثلث سكان المغرب أميون لا يعرفون القراءة والكتابة؟
يخسر سنوياً كل من المغرب والجزائر المليارات؛ بسبب توقف الحركة التجارية عبر الحدود المغلقة، كما تفاقمت عمليات التهريب التي تضر بشكل مباشر باقتصاد البلدين، ولا يبدو أن ذلك مهم للطرفين، كما أنني أعتقد أن الأزمة لن تشهد انفراجاً، على الأقل على المدى القريب، وسيبقى السؤال الوحيد: إلى متى ستظل الحدود مغلقة والعداوة مستعرة؟ وكيف السبيل لخلق روابط الثقة بين البلدين من جديد؟ أم أن نموذج الحرب الباردة بين الكوريتين وجد أرضاً خصبة في مغربنا الكبير؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.