بَدَت بعض الأيام مليئةً بالأنشطة وبعضها رتيباً، لكنني وبحلول اليوم الرابع لم أكُن أشعر سوى بأني منهكة، قد تملكني إحساس كما لو أنَّ أيامي أصبحت أكثر أهميةً، بعد أن اعتدت الاستيقاظ في وقت مبكر. لكن اعتبرت أن النوم أكثر فائدة من الاستحمام، فقد لاحظت أنَّه مهما حاولت أن أبقى نظيفةً، فإنَّ حزم خيمة في الصحراء سيعيدني إلى الشعور بغير ذلك. كان يجب أن أعتاد الأمر ولا أستسلم. كما اعتدت أن أرتدي حجابي حتَّى قبل أن أغسل وجهي.
فتحت خيمتي بحذرٍ لأتأكَّد من عدم وجود أيٍّ من قرود البابون في الجوار. شعرت ليلة أمس بأشياء تقفز على خيمتي وترتطم بعمودَيْها. ينقطع التيار الكهربائي في العاشرة مساءً؛ لذا كان من المستحيل أن أخطو خطوةً إلى الخارج.
كان ينتظرنا أخدودٌ آخر أصغر يُدعى "سيسريم" (Sesriem) قبل أن نتوجه إلى الصحراء. تعني كلمة "سيسريم" ستة أحزمة، والاسم مأخوذٌ من الوقت الذي كان على الناس فيه أن يربطوا ستة أحزمة حول الدلو قبل أن يدلوه في النهر لجلب الماء. أما الآن فقد جفَّ النهر بسبب قلة الأمطار في ناميبيا؛ فسمح لنا ذلك بالخوض في داخل الأخدود دون أن نخشى الغرق.
أكثر ما لاحظته أثناء السفر كانت أشكال الجبال المختلفة التي رأيناها. كان "سيسريم" مزيجاً من الرمل والحصى بأحجامٍ مختلفةٍ أودعت في الأخدود بينما يتدفق النهر من خلالها. تشكَّل "سيسريم" بفعل تدفُّق النهر؛ فكانت التكوينات الصخرية فاتنة، والخطوط المحفورة على الصخور تمتد عبر معظم أجزاء الأخدود. الذي كان مساره هو ما يقودنا، في كل مرة كنتُ أعتقد أنه سينتهي كنت أجد ما أراه مُجرَّد منحنى ضيق آخر.
المشي على الحجارة جعلني أدرك عدم توازني، وكنت أكثر قلقاً بشأن كسر الكاميرا من أن أجرح نفسي. نصل إلى بركة صغيرة؛ ما يدل على نهاية طريقنا. نستدير ونعاود أدراجنا إلى نقطة البداية.
في طريقنا إلى مُخيم "سيسريم" كانت الخلفية مليئة بجبال صغيرة متناثرة مُكوَّنة من الصخور والحصى. من بين الشجيرات التي جفَّت استطعنا تمييز الحمر الوحشية الجبلية (Mountain Zebras). كان الحمار الوحشي هو الأول بين العديد من الحيوانات التي رأيتها في البرية، ولكن هذه المرة كانت مختلفة. تقف الحُمُر الوحشية في مواجهتنا بظهورها ذات الخطوط السوداء والبيضاء، وفي اللحظة التي نتوقف فيها تستدير لتُرينا جمالها المُهدَّد بالانقراض، بطونها ناصعة البياض. وهي لا تتواجد إلا في ثلاثة بلدان فقط في إفريقيا.
أدهشتني كولين ولولو بمعرفتهما الواسعة بالحياة البرية. نتوقف في منتصف طريق سريع لنعبر الطريق ونمتع أنظارنا بطائر الحبَّاك الذي يُضفِّر أعشاشه بما يجمعه من العشب القاسي. ظهرت العشرات من هذا الطائر في كل دقيقةٍ حاملات العشب بين مناقيرها لتصنع الأعشاش. كان عدد الأعشاش في الشجرة لا يُصدَّق. إنهم يستمرون في هذا لسنواتٍ حتَّى لا تعود الشجرة قادرةً على تحمُّل المزيد من هذه الأعشاش فتسقط.
وبعد بضع ساعات، وصلنا إلى معسكر "سيسريم"؛ فأصبحنا رسمياً في صحراء ناميب محاطين بالكثبان الرملية الذهبية البرتقالية من مسافة بعيدة، والتي أضفت لونها بعد ذلك إلى لون غروب الشمس.
نُصحنا في ذلك المساء بعدم مغادرة خيامنا ليلاً إلا عند الضرورة، وحمل شعلة متوهجة معنا إذا فعلنا. وأصدروا لنا تعليمات بوضع الشعلة في مواجهتنا بدلاً من أن نوجِّهها إلى الأرض. كان هذا الإجراء بسبب إمكانية أن نستمر في المشي فنصطدم بقرون المها فتخترق أجسامنا. إنه أمرٌ طريفٌ، أليس كذلك؟
في الرابعة والنصف صباحاً وقبل شروق الشمس كانت إشارة البدء في تسلُّق الكثبان رقم 45، الذي صادف أن يكون على بعد 45 كيلومتراً من بداية الصحراء. يبلغ ارتفاع الكثبان 90 متراً، وهي تقريباً أحد أصعب الأمور التي فعلتها.
كانت كاميرتي (GoPro) مشحونةً بالكامل ومربوطةً إلى رأسي، وبدأنا بالمشي حفاة الأقدام. كانت الكثبان برتقاليةً داكنةً وبُنيَّة شديدة اللمعان. وكانت الرمال أبرد من الهواء المُحيط بنا وناعمةً كالطحين وهي تداعب أصابع قدمي. كان الجري إلى أعلى أسوأ بكثير ممَّا كنت أعتقد، وبدا الوصول إلى ذروة الجبل هدفاً بعيد المنال. كان طول الفيديو الذي صوَّرته بكاميرتي 30 دقيقة، يظهر فيه بوضوح لهاثي من أجل الحصول على بعض الهواء والاستسلام: "لا أستطيع أن أواصل بعد الآن".
بدأت الشمس تشرق عندما كنت على بُعد أمتار من الذروة، لكن المشهد كان رائعاً. في بضع دقائق شاهدت الشمس تصعد من وراء الكثبان البرونزية الناعمة. ونزلت أشعة الشمس بلون اليوسفي على الكثبان المتألقة بهدوء، لتصُب عليها أشكالاً وألواناً مذهلة. عندما وصلت إلى أعلى قضيت بضع دقائق بين صفاء الكثبان الرملية مع أناس كنت قد بدأت أتمتع بصحبتهم بالفعل.
إنَّ السبب في شهرة صحراء ناميب هو المعادن الموجودة في رمالها، والتي تسمح لك برؤية هذا القدر من الجمال. ولقد قضينا وقتاً طويلاً بالسيارة لنصل إلى محطتنا التالية "ديدفلي" مررنا خلاله بالعديد من الكثبان الرملية، لذلك من الصعب أن أفهم حقيقة أنَّ 4% فقط من هذه الصحراء كثبان رملية، وصلت درجة الحرارة إلى 40 مئوية مع دقات الساعة التاسعة صباحاً؛ فكان الحر شديداً. ارتدينا الأحذية المخصصة للمشي لمسافات طويلة بسبب ارتفاع درجات الحرارة، ووصلنا إلى نقطةٍ لا تستطيع بعدها سيارات الدفع الرباعية أن تتابع السير فترجَّلنا.
كان علينا أن نبذل جهداً شديداً للسير خلال كثبان رملية صغيرة بأحذيتنا الثقيلة، وكان عقلي يتساءل عن الظروف التي اضطرت قبائل "البوشمن" إلى العيش فيها في الماضي، وحتى الآن. هناك حقيقة مثيرة للدهشة: كان البوشمن المقيمون في الصحراء مضطرين إلى التخلي عن أصغر أفراد القبيلة أو أكبرهم سنّاً حين يشارف مخزونهم من الطعام أو الماء على النفاد. بالنظر إلى أن الرُّضع والمسنين هم الأضعف والأصعب في الرعاية، كان البوشمن يتركونهم ولا ينظرون إلى الوراء أبداً.
تبدو "ديدفلي" كوعاءٍ من الطين مُحاطة بالأب الكبير والأم الكبرى؛ أجل، هذان هما الاسمان الحقيقان. إنَّهما أكبر الكثبان الرملية في العالم. تكوَّن مُنخفض الطين بعد هطول المطر حين فاض النهر فكوَّن أحواضاً ضحلة. شهدت صحراء ناميب فترات من الجفاف امتدت سنوات؛ فتحرَّكت الكثبان بجانب مُنخفض الطين ممَّا منع الماء من الجريان إلى خارجها.
إنَّ مُنخفض الطين مزيجٌ من البرونز والرماد؛ إنَّه شاسعٌ ومُحاطٌ بأطول الكثبان. ومن الكثبان الصغيرة التي سرنا عليها إلى المنخفض المستوي الذي كنا عليه حينها، تبدو لي تكوينات الطبيعة مذهلة. كان هناك تشكيلات رائعة على الرمال تكوَّنت بأشكال مختلفة. وفي ما بينها شقوق تكشف لك القليل من الألوان، فيما مشهد الأشجار ذات الـ900 عام التي جفت يثير في نفسك الخوف.
وحين تصل درجة الحرارة إلى مستوى لا نستطيع تحمُّله نعود إلى السيارة لنصل إلى مخيم الصحراء الذي يقع وسط اللاشيء. لم أرَ أحداً هناك غيرنا وبعض الحمر الوحشية في المساء.
بذلنا أقصى جهدنا لمغادرة الشاحنة لنتفادى الحر والقدر الضئيل من المياه الذي سُمح لنا بشربه. وأخيراً، في المساء، وقبل تناول العشاء، جلست مع "بيث"، الفتاة البريطانية التي عملت مدة عامين حتى تستطيع توفير نفقات السفر لعام كامل. لا أعرف الكثير عنها، لكنها كانت مهتمةً بمعرفة المزيد عن ديني. كانت أول مرة يسألني فيها أحدٌ عن ديني، وكان من المُطمئن أن تحاول "بيث" التعرُّف إليَّ وإلى الدين الذي أعتنقه دون أن تُصدر أحكاماً عليَّ.
نمنا ليلتنا تحت النجوم، حرفياً. وضعنا 20 مرتبة نومٍ متوازية على الرمال. حرصت على أن أنام وسط فتاتين وفي مكانٍ قدَّرت أنَّ الحشرات والحيوانات لن تصل إلىَّ فيه. فلم تكُن لتصل إليَّ على أيَّة حالٍ لأن شبكة الحماية من البعوض كانت فوق رأسي. كانت تلك هي الليلة الوحيدة التي سُمح لنا فيها بالنوم تحت النجوم؛ وشعرت بالامتنان على الرغم من أنني كنت مضطرةً إلى النوم مرتديةً الحجاب، فضلاً عن طبقات من الملابس لأبقى دافئة.
استلقيت على مرتبة النوم، ونظرت إلى مشهدٍ أظن أن من الصعب أن يتكرر: سماء مليئة بالنجوم، ليس فيها مكانٌ لنجمة أخرى. كانت النجوم تلمع، وفي كل مرةٍ أردت أن أغمض عيني كنت أحاول أن أبقيهما مفتوحتين حتى لا أضيع فرصةً ربَّما لن تتكرَّر مرةً أخرى. حقاً لم أرَ في حياتي منظراً أروع من ذاك. كانت لحظةً شعرت فيها بالامتنان أن حظيت بهذا السفر.
وبينما استغرق الجميع في النوم، بقيتُ مستيقظةً لساعات؛ فلم أكُن أريدُ أن أحلم بشيءٍ سيكون، بكل تأكيد، أقل بهاءً من منظر النجوم. تذكرت حينها أن غداً سيكون أول يومٍ أتمكَّن فيه من الاتصال بأسرتي. وليس هذا فحسب، بل إنني سأقفز من طائرة على ارتفاع 1000 قدم!
"يُتبع"
الجزء الثاني اضغط هنا
الجزء الثالث اضغط هنا
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.