(1)
كانت جدتي -رحمها الله- سيدة جَلْدَة للغاية، تحب في الحياة كل ما هو مبكر ونشيط ونظيف ومُرتَّب ومهذب وهادئ. ورثتْ هذا من أمها التي كانت كذلك صارمةً للغاية، وكانت الاثنتان تعتقدان أن الصرامة في تربية النشْء هي السبيل الوحيد لتقويمه وتهذيبه. حسناً، لا أريد أن أكذب بعد كل هذه السنين وأقول إنني كنت فَرِحاً بهذا الأسلوب، لكني لست أكذب حين أقول إني أحببت الجدة -رضي الله عنها- وصادقتها وأصبحت نديم حكاياتها رغم كل صرامتها وشدتها. ولعلي حين أُسألُ عمن تعلمت منهم في المقام الأول، لا أسبق بجدتي وأبي وأمي أحداً ولا أعدل بما علموني شيئاً.
المهم، كان فيما علَّمتْنيه جدتي أن نَعَاف طعام الغير ونحن صغار. دعني أشرح لك شيئاً عن قريتنا في قلب ريف محافظة الشرقية المصرية. البيوت يومئذ مبنيَّة بالطين وملحَق بكل بيت -أو على الأقل بكل بضعة بيوت- (فُرْنٌ) لصنع الخبز البلدي. هذه الأفران هي محل النساء وملتقاهم؛ هذه تخبز، وتلك تساعدها في صنع العجين، وثالثتهن توقد النار وتغذيها بالوقود فلا تنطفئ، وقد ترش بعض الماء تبغي تخفيف حرارة الفرن وحفظه بحرارة منشودة. ربما لا تستطيع تخيُّل هذا جيداً، لكني أذكره رأي العين؛ فقد قضيت طفولتي في هذه الأنحاء. هذه الأفران يقصدها كذلك الأطفال، فهذا يُعلِمُ أمه بشيءٍ حصل، وهذا يسأل أمه أو جدته شيئاً، أما ذاك فلعله مثلي يحب سماع الحكايات وتسمُّعَ القصص.
وهذه مُحَرّمة عند جدتي كأنها الخمر والقتل بغير حق. لكنّ جدتي لا تملك كل مرة أن تسبق النساء بزجري ومطالبتي بالعودة إلى البيت والانصراف إلى ما يخصني، حتى تعزم علَيّ إحدى النساء -وهذه يومئذٍ عادة- إلّا ذُقتُ من الخبز شيئاً. وهو فوق كونه عادةً، فهو في عُرفهم (بركة) ما أو (نفحة خير) يستقبحون فواتها؛ أن يمر عليهم شخص وهم يخبزون فلا يُذيقونه شيئاً مما يصنعون، ولهم في ذلك فنون. فلعل إحداهن تستبقيني لصنع رغيف خبزٍ طفوليٍّ طَرِيٍّ مخصوص، يسميه نساء قريتي (حَنّونة) أو يزيدون عليه السكر ويقددونه فيصير شبيهاً بحلوى البريتسل التي تهواها ابنتي مارية اليوم هنا في بلادنا الجديدة.
وكانت جدتي تكره جداً أن نأخذ من هذا شيئاً، لكنها تعلم أنها لا تستطيع منع النساء من ذلك، فكان الحل أنها تقرص أذن الواحد منا بالبيت وتطالبه -بكل ديمقراطية بالطبع- أن يرفض هو هذا ويفرّ جارياً هارباً إذا ما أصرّت النساء! هكذا، أرادت أمها وعلَّمتها، وهكذا أرادت جدتي مني، أن أنطق أنا بالرفض حتى وإن تظاهرت هي نفسها بالإلحاح عليّ لأخذ ما صنعته النساء. ولقد سامرتها -رضي الله عنها- ذات ليلة حين كبرت وهي يومئذٍ مريضة وأعلمتها حديث النبي "لا تجمعن جوعاً وكذباً"، فأنصتت وحوقلت ولم تذكر شيئاً. لكن منهج الجدة أفلح وأصبحت أهابُ جدّاً إذا دُعيتُ إلى طعام خارج بيتنا ولا أستطيعه وأستثقله ولا أطيقه، حتى إن هذا سبَّب لي بعض المشاكل مع أصهاري في البداية ولم يكن لهم أن يتفهموا ألا يأكل زوج ابنتهم في بيتهم، ولعلي اليوم أفشي بعض ما كتمته؛ أني لم أستطع الأمر إلا بعد أن قبض الله الجدة فَسَهُلَ عليَّ مخالفتها وإن لم أنس حرفاً من كلماتها.
لك إذاً أن تسحب هذا على كثير من عاداتي، فكل ما ورثته عن الجدة ما زال باقياً وأراه أحياناً حين أتعرض لإرشاد ابنتي فأكف بعضه لعدم مناسبته لها وأطلق الآخر، ولربما تذكرت المَثل الذي كانت تنشده الجدة في مناسبة فعل ما فأقوله وتضحك مارية ابنتي لما لا تفهمه.
الخلاصة بعد كل هذا، أن جدتي في أعماقي وأنا أحسها في كل مناسبة وأستنشدها فتنشدني وأستوضحها فتوضح لي، ولعلها كما بعض ما ورثته من ثياب أبي، مريحة ومناسبة لشخصي رغم بُعد الزمان والمكان عن قبريهما، عليهما من الله سحائب الرحمة والرضوان.
(2)
قبل عدة أشهر، حضر وزير الداخلية الألماني مؤتمراً عن الاندماج في العاصمة الألمانية برلين. خرج بعدها العزيز توماس دي ميزيير ليصرح بأن أولئك الذين يتقنون اللغة الألمانية، ولديهم وظائف جيدة ويعيشون دون مخالفة القوانين الألمانية ليسوا هم نموذج الاندماج الناجح الذي يتطلعون إليه!
في البداية، حين قرأت الخبر وفحوى الكلمات لم أستوعب كثيراً ما الذي يقصده الوزير، لدقائق شككت في مدى مصداقية الكلام، لكنني تأكدت من مواقع مختلفة أن الرجل تفوه بهذه الكلمات حقاً. المضحك، أنه ذكرها في اجتماع لمنظمات أهلية وحكومية في برلين بمؤتمر عن الاندماج!
حينها، تداعت إلى ذهني تصريحات قديمة كانت أشد حدة من الوزير السابق بيتر هانز فريدريش، أصدرها أيضاً وهو في قلب معمعة الحوار مع رؤساء المنظمات الإسلامية في فرانكفورت. حينها، تأكدت ليس فقط من شؤم منصب وزير الداخلية حتى في قلب الحكومات الديمقراطية، لكن كذلك من موهبتهم في اختيار التوقيت والزمن والألفاظ غير المناسبة لمثل هذه التصريحات.
أجدني -كمقيم هنا في الجمهورية الاتحادية – مخاطَباً بالاندماج من كل القطاعات؛ دورات اللغة، ودورات التثقيف السياسي، ومسؤولي العمل في الجهات الحكومية، ومسؤولي العمل في كل شيء، سواء بالقرب من حدود الدنمارك أو على حواف سويسرا في الجنوب. المشكلة التي تؤرقني أن أحداً منهم لا يخبرني أبداً بما يقصدونه بالاندماج الصحيح في المجتمع.
الأمر أصبح بالفعل سخيفاً؛ كلهم يطالبونك بذلك الشيء الذي لا يعرفون ماهيته! هل يطلبون منا مثلاً أن نتحول إلى ديانة أخرى -معاذ الله؟! ليس الأمر كذلك؛ فالغالبية العظمى من الألمان ليسوا متدينين يسعون إلى نشر دعوتهم. هل هو تحول ثقافي مثلاً هو المطلوب منا؟ حسناً، ما مظاهر هذا التحول المطلوب؟ لا أحد يدري!
هل هي المشاركة في خدمة المجتمع؟ هل هو الانخراط في أعمال تطوعية وما شابهها؟ لكن الزملاء الذين يفعلون ذلك يخبروننا بأنه لا جديد تحت الشمس، وأن شيئاً من التغيير لم يصب أحداً ممن يلتقونه في هذه الدوائر. يبقى المتحمس والمتسامح كما هما، ويبقى الحذِر والمتشكك كما هو.
هذه الحيرة ليست من نصيبي كعربي مسلم فقط؛ بل أصبحت محل تندّر الأجانب الأوروبيين الذين يعيشون معنا في المدينة نفسها. أذكر أن لقاء جمعنا على الغداء في العمل وكنا خمسة، وعربي، وكردي، ويوناني، وسلوفيني وصربي، ثم أقبل علينا صديق ألماني خفيف الروح، وبمجرد أن جلس معنا بادره اليوناني قائلاً بلهجة ساخرة: عليك أن تحذر جيداً وتحاول أن تندمج مع كل واحد منا على طريقته الخاصة وإلا فلن نجدد لك إقامتك. يشير إلى بعض الاشتراطات التي يطلقها مكتب الأجانب بين الحين والآخر. الجميل أن الزميل الألماني رد بسرعة: أنا مثلكم تماماً لا أدري ماذا تقصدون بهذه الكلمة الحمقاء.
(3)
الحقيقة التي لا أدري هل يدركها توماس دي ميزيير وغيره من المعنيِّين بقضايا اندماج المهاجرين، أن جدتي ما زالت -كما قلت- في أعماقي، وأن أي مشروع لزحزحتها لصالح قيم وعادات أخرى سوف يخسر حتماً. وجَدّتي هنا هي كل قيم وعادات وتقاليد وأفكار نشأت بكل إنسان وافد هاهنا، في إطار ثقافي وفكري مختلف تماماً عن مجتمعاته الجديدة. ولن يكون من الحكمة؛ بل لن يكون من الممكن مطالبته بالتخلي عنها، وإلا فسيكون هذا مشروع تمزيق إنسان بتاريخه وتراثه وعاداته، وهذه جريمة لا تحتاج إلى شرطي أو وزير داخلية ليقبض على مرتكبها، وإنما تحتاج إعادة النظر في جدوى هذه المشاريع. بالتأكيد، ليس من المعقول أن أصرّ على استمرار أخطاء جدتي أو الدعوة لاستمرار ما ثبت خطؤه من تجاربها، لكن الأجدى في رأيي لأي مشروع اندماج هو:
– التعريف بكلتا الثقافتين وتحديد ما هو قانوني لا ينبغي مخالفته، وما هو مطلوب ينبغي تشجيعه واستثماره، ثم ما هو اختياري لا يجبر أحدٌ أحداً عليه. أما إبقاء النصوص هكذا جامدة تعامل النفوس والثقافات كأنها ثلج ينبغي أن يذوب وينتهي شكل قالبه، فلن ينتج إلا مجتمعات منعزلة لا تندمج ولا تسعى للاندماج، وحينها يمكنني أن أستدعي مَثَلَ جدتي الأثير في هذه الحالات: (قَتيل إيديه، ما حد يحزن عليه). المحزن أن القتلى سيكونون من الطرفين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.