نرجو من حضراتكم ربط أحزمة المقاعد نحن على وشك الإقلاع والتحليق "بين السحاب".
انطفأت إشارة ربط أحزمة المقاعد، ووجدت نفسي هائمة في مدى جمال تلك السحب التي تحملنا بكل رشاقة ومرونة بين أحضانها، ما كل هذا الجمال! رأيت وجه أُمي الصبوح، أو هكذا خُيِّل لي، فسقطت مني دمعة حائرة لا أعلم هل هي دمعة اشتياق مسبق أم خوف من القادم، نعم لقد قررت أن أخوض تجربتي بنفسي، وأحقق حلماً راودني كثيراً منذ الصغر، عندما كان يسألني أحدهم عن مشاريعي عندما أكبر، وكانت الإجابة حاضرة دون تردد: "عاوزة أشتغل مضيفة".
أتذكر حين رفعت السماعة تحدثت معي سيدة بلكنة بريطانية، فهمت منها أنني على موعد لخوض اختبار المضيفات في أحد فنادق القاهرة، سعدت جداً، وبدأت أستعد للمقابلة التي لم تكُن سهلة بالمرة، لم أستطِع النوم، أسئلة وأفكار كثيرة تعصف بذهني، تأنقت وذهبت حاملة معي ذلك الشعور بالغثيان والارتباك، عادة أشعر به وأنا مقبلة على امتحان، أو مقابلة مهمة، أو مقابلة عريس.
بداخل قاعة كبيرة وجدت المئات مثلي منتشرين هنا وهناك، وانقسمت القاعة لمجموعات أشبه بطبقات المجتمع المختلفة، وجدت المنفتحين سواء بملابسهم أو بطريقة تعاملهم؛ حيث الضحك والتدخين والتعالي في الحديث، هكذا صوَّرهم مخرجو الأفلام، وجدت المحافظين وقد بدت عليهم مظاهر الثقافة؛ حيث كان النقاش عن أفضل شركات الطيران، وعن شروط العمل بالخليج، وعن قانون الكفالة وغيرها، لم أكُن بعد ملمّة بمجريات الأمور في الخليج؛ كي أتوغل في قوانين العمل هناك، وجدت البسطاء الساعين لأجل تحقيق حلم راودهم رغم تواضع حالهم، كنت أنا معهم بسيطة من البسطاء.
بدأت الاختبارات التحريرية تبعها الوقوف أمام اللجنة؛ لتقييم المظهر وقياس الطول والوزن، نعم الطول والوزن مهم جداً قبل أن تلتحق بالعمل، ولكن مَن سافر يجد مضيفات بأحجام الديناصورات في الطائرة، أليس هذا يحدث في كل شيء؟! حتى في الزواج تجد الزوجة والزوج في فترة الخطوبة (الاختبار) في أحسن حال، وما إن تقع الفأس في الرأس تجد الزوجة وقد تكنزت، وأصبحت كما يطلق عليهم الآن "كيرفي"، مصطلح يخفف من حجم المعاناة، وتجد الزوج وكأنه ابتلع كرة قدم، وقد انتفخ الكرش وسقط الشعر، إنه التحول الذي يحدث من مرحلة السعي للشيء إلى التمكن منه.
أنهيت الاختبار بمقابلة فردية مع سيدة بريطانية تبدو لطيفة؛ حيث سلمتني بعض الأوراق قائلة: "مبروك عزيزتي لقد اجتزتِ الاختبار".
طِرتُ من الفرحة، ليس فقط لاجتيازي الاختبار، ولكن لأني استطعت أن أنفذ ما أردته، في معظم مجتمعاتنا العربية الأهل يحددون ماذا نأكل، ونشرب، وندرس، ونعمل وحتى مَن نتزوج! لكني قررت ألا أتنازل عن حقي في الاختيار، حتى وإن بدا اختياري خطأ سأتحمل عواقبه وأنا سعيدة.
انتبهت للمضيفة وهي تسألني عن مشروبي، لم أسمع اللهجة المغاربية من قبل، لهجة تبدو قاسية نوعاً ما، ينطقون الحروف بقوة، قد نبدو نحن "المصاروة" كما يطلقون علينا في الخليج رقيقين جداً بلهجتنا.. كانت مليحة الوجه مثل الكثيرات من المغرب، آاااه كم أحب المغرب! سأخبركم بمحاولاتي البائسة في طبخ "الطاجين والكسكسي" وعن الحمام المغربي المخجل والمنعش في تدويناتي المقبلة.
سمعت الكابتن يرحب بنا عبر السماعات، ويخبرنا ببعض المعلومات عن الرحلة، حينها ارتجف قلبي وتساءلت: ترى هل سأحب طياراً كما يحدث في الأفلام؟ هل سأكون مديحة كامل في فيلم (بريق عينيك) وسأقع في غرام نور الشريف الذي يحب أن يتناول عصير البرتقال "فريش"؟ نظرت خارج النافذة وقد خيم الظلام وبدت الأنوار تتلألأ من بعيد، لقد اقتربنا من الأرض.
نرجو من حضراتكم العودة إلى مقاعدكم مع ربط أحزمة المقاعد استعداداً للهبوط، عند الإعلان عن الهبوط علينا المضيفات التأكد من ربط الأحزمة ووضع الحقائب في أماكنها، وجدت كثيراً من الركاب يمتنعون عن وضع الحقائب في أماكنها المخصصة، حقيقة شيء مزعج أن تظل المضيفة تشرح للركاب كل على حدة عن أهمية السلامة العامة وتطبيق الإرشادات، لا أعتقد أني أمتلك هذا الكم من الصبر، ماذا لو تركتهم يموتون مختنقين بحقائبهم لعلها تنفعهم، دائماً نجادل، وأسوأ أنواع الجدال مع الجهلاء، يجعلونك تفقد أعصابك ووقتك.
جلست المضيفة في كرسي مقابل لي، وقد بدا عليها التعب والإرهاق، ورغم ذلك رسمت تلك الابتسامة الصفراء على وجهها، لماذا اختاروا اللون الأصفر رغم أنه مبهج؟ لماذا لم يقولوا الابتسامة البُني مثلاً فيها من القتامة ما يدل على التصنع؟ كم أشفق عليها وعلى نفسي.
هل تسرعت في اعتقادي بأن تلك المهنة ممتعة؟
حتماً ستجدون الإجابة في سلسلة تدويناتي "بين السحاب".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.