مع كل موعد انتخابي تشهده موريتانيا يعود النقاش في مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض وسائل الإعلام وحتى في بعض الأوساط السياسية التي تحاول الاصطياد في المياه العكرة، حول موضوع مشاركة ذوي الأصول الصحراوية في الانتخابات الموريتانية، باستحضارها لجوانب عرقية ومناطقية شوفينية تتعلق بالموضوع.
طبعاً لن أتحدث في هذا الصدد عن التاريخ والثقافة وبقية عناصر الهوية المشتركة التي تجمع الصحراويين بموريتانيا، والتي لا تتناقض مع حقهم في حمل جنسيات أخرى، وهي الاعتبارات التي قد يُعدها البعض شعوبية وعنصرية، رغم أنها هي نفسها الاعتبارات التي تبنَّاها النظام الموريتاني في فترة سابقة، ودفع بها للمطالبة بإقليم الصحراء الغربية غداة استقلال موريتانيا، ولكن سأحاول أن أسرد بعض أوجه المسؤولية السياسية والأخلاقية التي تقع على عاتق الدولة الموريتانية إزاء الصحراويين عموماً، وإزاء ساكنة إقليم وادي الذهب الذين تضرروا من دخول موريتانيا في حرب الصحراء، وهي الحرب التي تسببت في تهجير الصحراويين وشتاتهم في دول الجوار، وارتكبت بموجبها العديد من الجرائم والانتهاكات في حق الساكنة، كما لن أتبع أسلوب البعض في الترويج للطروحات العنصرية القائمة على الحضّ على كراهية الآخر.
فالصحراويون لا يمكن مقارنتهم بغيرهم من مكونات مجتمع البيظان المتواجدين في بلدان الجوار، بخصوص حقهم في الحصول واسترجاع الجنسية الموريتانية لجملة اعتبارات متعددة.
فتاريخياً لم تكن مناطق الشمال الموريتاني خاصة في تيرس وزمور تشهد أي استقرار حقيقي للسكان قبل سيطرة الاستعمار عليها، فأقرب الحواضر التاريخية لها هي حاضرتا أطار وشنقيط جنوبا اللتان تقعان في أدرار، بالإضافة إلى تيندوف شمالاً التي تقع في الحمادة، فكل القبائل التي كانت تستقر في تلك المناطق كانت عبارة عن رُحّل تنتقل بشكل مستمر في مجالات جغرافية مفتوحاً، وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن الاستعمارَين الفرنسي والإسباني لم يُحكما سيطرتهما على المنطقة المذكورة سوى في سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي، تحديداً سنة 1934، التاريخ الذي تم فيه تقسيم ساكنة المنطقة المذكورة بين نفوذهما الإداريين، حيث تم فرض الاستقرار داخل المنطقتين الإداريتين المعلنتين من طرف الاستعمارَين الإسباني والفرنسي على الكثير من الرحل، فتم إلحاقهم بها كرهاً بسبب العمليات العسكرية التي شنتها القوتان الاستعماريتان في الفترة ما بين سنتَي 1931 و1934 ضد المقاومة، نجد أنه من حق المنتمين إلى إحدى المنطقتين الإداريتين الاستعماريتين المطالبة بالعودة إلى إحدى المنطقتين رغم الاستقرار خارجهما قبل جلاء الاستعمار.
وإذا ما استحضرنا تاريخ استقلال موريتانيا نجد أن الفترة الفاصلة بين تاريخ ما يعرف محلياً بحدث "ملكا الحكامة" سنة 1934، أي إحكام السيطرة على المنطقة من طرف الاستعمارَين الفرنسي والإسباني وبين استقلال موريتانيا لا يتجاوز 26 سنة، ما يعني الكثير من الأفراد المنتمين للقبائل الرُّحّل التي كانت تستقر في المناطق الحدودية فرض عليها التخلي عن مناطق استقرارها والتبعية لإحدى الإدارتين الاستعماريتين فيها، وخاصة أن الأفراد هجّروا من تلك المناطق في فترة بداية الثلاثينيات، كانو لا يزالون على قيد الحياة إبان إعلان استقلال موريتانيا، وبالتالي يبقى حقهم في استرجاع جنسية موريتانيا قائماً، وهو الحق الذي لا يسقط بالتقادم، كما يحق لأبنائهم المطالبة باسترجاعه، نتحدث في هذا الصدد عن العديد من القبائل التي كانت تستقر في المناطق التي باتت حدودية لاعتبارات فرضها المستعمر، من قبيل قبائل الرقيبات وأولاد الدليم وأهل باركاللا وأهل محمد ول محمد سالم وأولاد اللب… وغيرهم، بالإضافة إلى الكثير من الأسر التي استوطنت تلك المناطق رغم انتمائها إلى قبائل تستقر في مناطق أخرى، بحكم أن المجال البيظاني كان مفتوحاً على العموم.
هذا من ناحية، من ناحية أخرى يجب ألا ننسى أن الدولة الموريتانية هي من اعتبر أن الصحراء إقليم موريتاني في فترة معينة، حيث استمرت الدعاية السياسية طوال عشرين سنة، منذ تأسيس الحكم المحلي سنة 1959 قبل جلاء الاستعمار وحتى انسحابها من حرب الصحراء سنة 1979، تمت خلالها محاولات لاستمالة الساكنة عبر تجنيد العناصر واستقطابها بمختلف الطرق والوسائل، بالإضافة إلى أن الدولة الموريتانية هي من قامت بفرض الجنسية الموريتانية على الصحراويين المنتمين إلى إقليم وادي الذهب خلال اجتياحه من طرف النظام الموريتاني إبان حرب الصحراء (سنوات 1975 وحتى 1979)، فضلاً عن تورطها في تهجير الصحراويين من أبناء الإقليم ونزوحهم في بلدان الجوار بسبب العمليات العسكرية التي شنَّها الجيش الموريتاني في تلك الحقبة، ويكفي فقط أن نتذكر أن مركزاً حضرياً وتجارياً هاماً من قبيل مدينة الكويرة، تم تهجير ساكنته بالكامل إبان جلاء القوات العسكرية من الموريتانية من الصحراء، كما تم السطو على ممتلكات الصحراويين فيها، دون أين يتم أي تعويض لهم عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقتهم، وحتى حين تم انسحاب موريتانيا من النزاع الصحراوي احتفظت بالسيطرة على منطقة الكويرة حتى حدود الساعة.
وبالتالي فمحاولة مقارنة وضع الموريتانيين من أصول صحراوية ببقية مكونات مجتمع البيظان المتواجدة في دول الجوار كأزواد والنيجر وغيرها، واقتصار أسباب أحقيتهم في المشاركة في السياسية في موريتانيا وفي الحصول على حقوقهم المدنية كاملة في انتمائهم لمكون البيظان، دون استحضار المسؤولية التاريخية الأخلاقية والسياسية التي تقع على دولة موريتانيا إزاء الصحراويين المتواجدين على أرضها يبقى تبريراً وطرحاً مجحفاً في حقهم، فموريتانيا بحكم التزاماتها القانونية والسياسية إزاء الإقليم متورطة في كل الحيف والظلم الذي لحق بمدنيين لم يكن لهم أي ذنب في المصير الذي لحقهم، ولم يختاروا عن طواعية مغادرة أماكن استقرارهم ومناطق انتجاع آبائهم وأجدادهم.
ورغم التعقيد البالغ الذي يمتاز به ملف التجنيس في كافة دول العالم وفي موريتانيا على وجه الخصوص، بالنظر إلى التعقيدات السكانية الكثيرة التي تعرفها، وتقاطع الاعتبارات السكانية مع عرقي وثقافي وحتى ما هو سياسي، فسيبقى المرجع الرئيسي لموضوع كهذا هو دستور الدولة الموريتانية، بالإضافة إلى التشريعات الدولية التي يجب أن يخضع لها القانون الموريتاني في هذا الخصوص، والتي تضمن للمواطنين التمتع بكافة الحقوق المدنية والسياسية بغض النظر عن أعراقهم أو انتماءاتهم الثقافية والمناطقية.
يبقى أن نشير إلى أن أسباب الحصول على الجنسية الموريتانية بالنسبة إلى الصحراويين المتواجدين في موريتانيا لن تعدو رغبتهم في الانتماء إلى وطن يرتبطون به ويحسون بمشاعر حقيقية إزاءه، ويرغبون في خدمته وتعميره، بما لا يتعارض مع انتماءاتهم المجتمعية الأخرى، فكل محاولات نبش الماضي ونكء الجراح عبر استهداف مكونات اجتماعية معينة لن تصب في صالح الوحدة الوطنية لبلدان المنطقة، وستقوض السلم الاجتماعي في مجتمعاتها، وستهدد الاستقرار فيها، كما لن تساهم في إقامة علاقة احترام متبادل وحسن الجوار بين بلدان المنطقة، ما سينتج عنه تبعات خطيرة على مستوى التعايش فيما بين المكونات الاجتماعية والكيانات السياسية مستقبلاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.