سألت ابن أختي وأول حفيد لأمي منذ ما يعدو على عشر سنوات وكان لم يكمل الخامسة من عمره إذا كان يبادلني مشاعر الحب نفسها التي أكنُّها له، ردَّ عليَّ بكل حماس بقيله طبعاً! سعدت بالطبع سعادة بالغة بهذه المشاعر المتبادلة، واستزدت في سؤالي –كعادتي مع الصغار وبعض الكبار- عمن يحب أيضاً ممن يعرف؛ فأخذ يعدُّ لي حبه لأمه وأبيه وباقي أفراد الأسرة حسب ورودهم على خاطره ثم صمت قليلاً وقال: "لكني أحب نفسي أولاً". كانت عبارته مثيرة لتأمُّلي طويلاً لدرجة أنه شعر أنني لم أنتبه لبقية كلامه.
تساءلت في نفسي كيف لابن الخامسة أن يصرِّح بهذه الحقيقة بكل وضوح وبيان من دون المواربة التي دائماً ما يسلكها الكبار، فقد لمس بهذا التصريح ما يشغلني منذ البلوغ، فالإنسان عندما يبلغ تنشب داخله قوى الغضب والشهوة وهي المعنى الجامع للنفس، فإما أن ينساق وراء هذه القوى أو يقاومها بالاسترشاد بخالقها.
وعند نشوب قوى الغضب والشهوة هذه تتجلى قدرة الخالق في التحول من الطبع الملائكي ورؤية الأمور من منظور ملائكي إلى رؤيتها من منظور بشري محفوف بالرغبات والأهواء.
وتصاحب الإنسان نفسه إلى أن تصير ذاته التي يُعرف بها، وبذلك يتداعى السؤال: أي وجه يحب أن يرى الإنسان نفسه؟
والنفس داخل الإنسان كالضيف دائم الإقامة الذي دائماً ما يتمنى الإنسان أن يُغدقه بكرم ضيافته، لكن أي كرم؟ هل الكرم الذي به يقدم لها كل شيء حتى المحرمات؟ أم يقدم لها كل ما لذَّ وطاب في إطار ما يحفظها ويزكيها؟
فعند بلوغ الإنسان تنقلب الدنيا رأساً على عقب أمامه ويختل لديه التوازن ويزول هدوء نفسه، وتستيقظ صراعات داخله وتضطرب أحواله وينشد الاستقرار لنفسه؛ ذلك الاستقرار الذي لا يتأتَّى إلا بعقد اتفاق معها على منهج يبصره بطبيعة ما طرأ عليه من تطورات ونشب داخله من صراعات، وإلا لا يمكنه أن يتكهن بنتائج هذه التطورات على تفكيره أو وجدانه أو سلوكه، وقد تلازمه هذه النتائج طيلة عمره.
ذلك المنهج الذي من المفترض أن يكون الأب والأم قد زرعا قواعده في أولادهما استعداداً لحمل مسئولية البلوغ وتبعاته، فيخطئ الإنسان عند البلوغ ويتخبط، لكنه يجد مرجعاً يستند إليه ومرفأً يرتاح عليه؛ فردود فعل المراهقين ما هي إلى نتيجة ما زرع آباؤهم.
وتعد فترة البلوغ أهم فترة في حياة الإنسان؛ لأنها الفترة التي عندها تكون الشخصية قد تكوَّنت ومن ثَم يتحدد مصيره كإنسان ناضج التكوين.
وحب النفس فطرة لدى الإنسان، لكن يبقى السؤال عند البلوغ أو لِنقُل عند مفترق الطرق على أي وجه يحب الإنسان نفسه؟ فحب النفس له وجهان؛ فإما أن يحب الإنسان نفسه بأن يتعرف إليها ويتفق معها على منهج في الحياة؛ لأنه ونفسه متلازمان أو أنه يحبها لدرجة أن يجعلها تقوده فيخسر أعظم اختبار في القوة.. فالقوي مَن يملك نفسه.
وإما أن يحبها ويعدل بينها وبين الناس، أو أنه يظلمها بأن يضعها فوق البشر ظناً منه أنه يحبها. وإما أن يعرف حقوقها ويساعدها في نيلها حتى تلبّي له ما يُطلب منها من أجل التهذيب أو أنه يضيع لها حقوقها -ظناً منه أن هذا نوع من الإيثار المحمود!- فيختل الرباط الذي بينه وبينها ويخفق في انقيادها.
وإما يحب الإنسان لنفسه الخيلاء والحقد والطمع والجشع والشَّرَه والسخط والغيرة، التي تؤول إلى حسد، والأثرة وما إلى ذلك، أو أن يحب نفسه فيقيها شر كل ذلك بتهذيبها وتزكيتها، ويقي الناس شرها وهو ما يُطلق عليه الأنانية المستنيرة.
وإما أن يحب الإنسان نفسه بأن يمنحها حريتها بأن يسلمها لخالقها ليوجهها ويسترشد به، أو يستعبدها بشهواتها على أنواعها ظناً منه أنه بذلك يسعدها!
والنفس تحب أن تكون قوية، ولكن حبها للقوة في ذاتها يختلف؛ فنفس ترى أنها تقوى على غيرها، ونفس أخرى ترى أن قبل أن تقوى على سواها تقوى على نفسها في أن تقاوم أمراضها التي تطرأ بين الحين والآخر على حسب طاقتها في المقاومة، وثمة نفوس لا تقوى على نفسها ولا على ما سواها.. فماذا يحب الإنسان لنفسه أن تكون؟
وأخيراً أرى أنه إذا أحب الإنسان نفسَه حفظها من شرورها ووقاها مذلاتها، فكانت الصديق الدائم له الذي يود مقابلته ليأنس به في أي وقت.
أما إذا أحب الإنسان نفسه بأن جعل قوة الغضب والشهوة هي التي تقود اتسعت الفجوة التي بينه وبينها، وأصبحت الشخص الوحيد الذي لا يود أن يقابله.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.