يُقال إن هناك علاقة جدلية، متشابكة ومتفاعلة، بين البشر والمكان الذي يقطنونه، فالأماكن تكتسب ملامحها من خلال من عاش فيها ومرّ عليها من البشر والإنس. وفي الوقت نفسه، لم يكن أولئك البشر ليكونوا بما هم عليه لولا المكان الذي عاشوا فيه، فالكثير من صفاتهم وطبائعهم نقشها المكان شيئاً فشيئاً، يوماً بعد يوم، وعاماً إثر عام.
أفكّر بالأمر كلّما زرتُ "كوزكونجوك"، الحيّ التركيّ الذي تحسبُ نفسك وكأنكَ تتجول في قريةٍ هادئة هانئة، على الرغم من أنك لا تبعد إلا ربع ساعة عن قلب "أُسكدار" الحيويّ الذي لا يهدأ ولا يكلّ.
ما بين سحر ألوان البيوت والبنايات، والطبيعة الخلّابة الممتدة ما بين هضبةٍ ومضيق، يقع الحيّ القديم الذي حاكَ لنفسه ثوباً تمازجت فيه حداثة الألوان وعتاقة العمارة فعكست بكلّ جمالٍ وصفاءٍ على نفوس من يسكنها من أشخاص.
الزائر لهذا الحيّ يَحسبُ أنه خرجَ من رحم قوس قزح أو من بيتٍ للألعاب، فكلّ ما على أرضه من طرق، وجدران، ومنازل، وأبواب، ونوافذ، ومقاهٍ ومكتبات قد ارتدى مزيجاً فاخراً من الألوان.
وبالإضافة لذلك، لعل أهم ما يميّز الحي هو تنوعه الديني الكبير، فلا تستغرب في حال مررتَ بجامعٍ وكنيسةٍ وكنيسٍ وأنتَ تسير بنفس الشارع.
في اللغة التركية اسم الحيّ يعني "الغراب الصغير"، أما السرّ وراءه فيَروي الرحالة التركي "أولياء تشلبي"، أنّ الحي أخذ اسمه من رجلٍ صالح لُقب بذلك اللقب، سكن الحيّ في زمن محمد الفاتح.
وفي العصر البيزنطي، سُمّيت هذه المنطقة "هريسوكيراموس"، الذي يعني "البلاط الذهبي"، نسبةً للكنيسة ذات السقف المُذهّب الموجودة هناك.
أما عن الوجود اليهوديّ في الحي فقد بدأ خلال القرن الخامس عشر، حين قامت الدولة العثمانية باستقبال اليهود الفارّين من إسبانيا والبرتغال بعد سقوط الأندلس؛ إذ أتاحت لهم الدولة حرية اختيار مكان الإقامة، فاختاروا حيّي "بلاط" و"كوزكونجوك" بشكلٍ أساسيّ، وأُعطوا مُطلق الحرية بممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية، فتمّ بناء أول كنيس يهوديّ في الحيّ عام 1835.
بعيداً عن المعلومات التاريخية، ولنعدْ لما قلتهُ في البداية عن أنّ علاقة المكان بالبشر والبشر بالمكان هي علاقة متشابكة ومتفاعلة، فلا أبالغُ إنْ قلتَ إن أجمل ما في "كوزكونجوك" هم سكانها، ولا أعتقد أنني أخطئ حين أقول إن المكان عكس من جماليّته وعراقته على نفوس من سكنوه، زر الحيّ واستكشف ذلك بنفسك.
الحيّ باللغة التركية Kuzkunguk
يمكنُ الوصول إليه مشياً على الأقدام من ميدان "أسكدار" بمدينة إسطنبول، بمعدّل نصف ساعة تقريباً.
الطريق إليه ممتد على طريق الساحل، فلا تضيّع على نفسك متعة ما قد تراه وأنتَ تمشي.
يمكنك الوصول للحيّ أيضاً عن طريق إحدى الحافلات التي تقف أمام ساحل أسكدار، وتحمل رقم 15.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.