يُولَد الواحد منّا -نحن العرب- فيُستقبل بشيء لا بأس به من الاحتفاء والاحتفال، فيرى وُجودَه جميلاً بين أهله. وما إن يبدأ عقله بالإبصار والتمييز حتى يكتشف يوماً ما على مائدة الطعام أنه كعربيّ ليس محظوظاً كثيراً.
فها هو يتعلّم من والديه التهام الأخبار المُوجِعة مع اللقمة، فهو إلى اليوم يتذكر يومَ سقوط بغداد بطبق السمك المشوي اللذيذ، تماماً كما يتذكر اجتياح جنوب لبنان واحتلال فلسطين بالكعك والمشروب المجاني الذي ناله في الاحتفال السنوي بيوم الأرض.
تمر الأيام ويكبر معها ذلك العربي، أصبح في الخامسة عشرة من عمره، وقد احتفل به رجال الشرطة في مدينته لمشاركته في مظاهرة للتنديد بالحرب على غزة، وخلّف ذلك الاحتفاء كمّاً رائعاً من البقع الزرقاء البنفسجية على جسده.
ومن يومها، لم يَعد في الحياة ما يفاجئه إلى أن أيقظه صوت الخطيب "العربي" في صلاة العيد بإحدى ساحات مدينة إسطنبول وهو يقول: "اللهم استعملنا ولا تستبدلنا". وكان أغلب المأمومين من المُبعدين والمُرهَقين من مصر وسوريا وتونس والعراق وغيرها من بلاد العرب.
حال بينه وبين التأمين على سؤال الداعي سؤاله هو: هل من السهل أن يختارك الله وينصرك ويصطنعك لغاية كبرى؟
وجاءه الجواب الثقيل محمولاً على هفوات العرب المُفجعة في إسطنبول، أولها يوم نعت داعية مُهجّر من دولة أخرى دولته بالعلمانية والكفر وأهل وطنه بالردّة غيرةً منه وذوداً عن النصّ القرآني حول الميراث، وآخرها يوم احتشد الجمع من المعارضين لقذف وسبّ وشتم معارض آخر لأنه زعم -على حدّ تقييمهم- تعرضه لمحاولة اغتيال، حيث آلمهم كثيراً وطلبوا منه الاعتذار لهم لأنه فقط أُصيب وتماثل للشفاء ولم يمت.
وقد أساء لهم -كما قالوا- لأنه أفزعهم، ومن هول خوفهم عليه نعتوه بالكذاب والنصّاب؛ لأن نصل السكين مع الأسف لم يُصبه في مقتل!
هل يستعمل الله مثلنا؟
من رحمات الله أن جمع شتات العرب في إسطنبول، أرض أنبتت قوة للمسلمين يوماً ما، فوجود العرب فيها اليوم هو الخطوة الأولى نحو العلاج من لعنة الألم والاضطهاد والقسوة ورائحة الموت التي ألفناها ولا تتعب من ملاحقتنا.
هنا في إسطنبول، حتى وإن سافرتَ قليلاً سترى العالم من خلالها، كل ركن هنا يبدو نابضاً يدعوك ألا تشقى، هنا قد تخشى على كل شيء إلا قلبك فكل شيء ذو روح، في شوارعها وباحات مساجدها وصخب أسواقها وتزاوج التناقضات فيها، الأكل الحلو المالح في آن، مطعم أكل أجنبي يغلق الموسيقى ليترك المجال لسحر الأذان الرائع، فتيات غير محجبات يسارعن للصلاة ويُطلن التسبيح، الوشوم العثمانية على أجساد الشباب، كل هذا تجد فيه صفة الله الواسع، واسع الحب، واسع الرحمة والإطار.
كعربيّ شاء لك الله أن تكون على هذه الأرض، أدعوك أن تخلع نعليك!
حاول النجاة من الغمّ، حاول أن تُشفى من التعاطي العاطفي الأحمق مع الموت، فهي ظاهرة موجعة بيننا، لا تحزن لمُصابك حزناً فقيراً، ولا تفرح بموت جلاديك فرحاً مُخجلاً عاقراً لا ينجب نصراً ولا حلاً. توقف عن الوجود العقيم والجدال السخيف.
أرجوك أيها العربيّ لا تعتد الموت، لا تألف الدم، ولتُسبق رحمتك وحسن الظن بأخيك دائماً!
لا تُحرج نفسك بإبداء رأيك دون سبب وفي أي سياق، في الواقع نحتاج فعلاً لا كمّاً هائلاً من النقاشات الواهية في العالم الافتراضي.
كن أكثر شجاعة أيها العربي وأكثر لباقة وأقل تعنّتاً، ألم يقل الإمام مالك: "إذا رأيت الرجل يدافع عن الحق فيشتِم، ويَسُبّ، ويَغضب، فاعلم أنه مَعلولَ النية؛ لأن الحق لا يحتاج إلى هذا، يكفي الحق أن تصدَح به، حتى يُستجاب له".
اخلع عنك ثقافة الألم ولا تحسب توزيعك الحلوى لِموت عدُوك نصراً، بل النصر هو أن يَأكل أطفال الغوطة الحلوى.. ألّا يموت الرضّع جوعاً والنساء حسرة.
تعلّم أيها العربي أن تتعامل مع الحبّ بجدية لتنال ودّ الله وتمكينه حقّاً، ولا يكونُ ذلك إلا بصومنا عن الكربلائيّات وعتق ألسنتنا عن توزيع الذمّ عشوائياً وفقئ أعين بعضنا البعض وارتفاعنا عن موائد التصنيف وتبادل الشتائم وأكل قلوب بعضنا البعض.
اخلع نعليك أيها العربي إنها إسطنبول، حيث يصدح "السلطان أحمد" بالأذان لتجيبه "آيا صوفيا" ما أعذبك!
عسى الله أن يجعل لنا من رحماته المتناثرة هنا رحمة، وأن يهبنا ما كان لعباده الصالحين الأقوياء حقاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.