كان الله في عون أهلنا في مخيمات اللاجئين الصحراويين في تيندوف، الذين يعانون هذه الأيام الأمرَّين نتيجة الارتفاع المهول في درجة الحرارة ووصولها إلى حدود 55 درجة، في ظل انعدام أيٍّ من مقومات الحياة التي من شأنها أن تخفف معاناتهم إزاء الظروف المناخية الصعبة التي يعيشيون فيها.
طبعاً بالإمكان اعتبار أن المخيمات منطقة منكوبة نتيجة الارتفاع الكبير في درجة الحرارة، لولا أن الأمر يتكرر كل صيف وطوال أشهر، علماً بأن ساكنة المخيمات تعاني أيضاً في فصل الشتاء نتيجة الانخفاض الكبير في درجة الحرارة، حيث تصل إلى ما دون الصفر، كما يتهددهم في كل موسم أمطار خطر الفيضانات بسبب بساطة الأبنية السكنية التي لا تعدو أن تكون عبارة عن خيم وبيوت من الطين، بالإضافة إلى انعدام البنى التحتية وقلة التجهيزات وضعف خدمات الطوارئ والإنقاذ.
أكثر من 40 عاماً من المعاناة الإنسانية المهولة تفرض النظر بجدية في النزاع الصحراوي الذي عمر أكثر من اللازم، هرمت وانتقلت فيها أجيال إلى بارئها، ووُلدت على وقعها أجيال أخرى، في حين لا يزال تدبير النزاع محتكراً من طرف النخب نفسها التي فشلت جميعها في إنهاء النزاع حتى الآن، حيث تزداد الهوة ما بين وجهات النظر المعبر عنها من لدن أطراف النزاع، كما تغيب لديهم أي رؤية حقيقية للحل.
واقع سياسي متَّسم بالجمود يفرض دخول الأطراف في نقاش جدي حول الجوانب الإنسانية والاجتماعية للنزاع بمعزل عن مسار الحل السياسي المتعثر، فلا يعقل أن يتم رهن مصالح المواطنين ومستقبل الأجيال بقدرة سياسيين سبقوا أن أثبتوا فشلهم في التوصل إلى حل يُنهي هذا النزاع الشائك، في حين تظهر التصريحات غياب أي رغبة لديهم لإيجاده، رغم أن الأكثر فداحة في رأيي هو الرغبة المعبر عنها بشكل واسع لدى العوام والناس العاديين في التصعيد والعودة للحرب مرة أخرى، وكأن كل المآسي التي تسبب فيها النزاع لا تكفي!
معاناة إنسانية مترتبة عن النزاع ومسجلة على العديد من الصعد، أبرزها استمرار محنة النزوح واللجوء والشتات لمئات الآلاف من الصحراويين في دول الجوار لأكثر من 40 سنة، حيث تنقسم الأسر فيغيب الأب عن أبنائه والزوج عن زوجته والأخ عن إخوته طوال مدة النزوح واللجوء، كما تضيع الأملاك الشخصية والعائلية للأسباب نفسها، فضلاً عن مختلف جوانب المعاناة المترتبة عن الانتهاكات الإنسانية الناجمة عن الصراع، لا تزال هناك ادعاءات بعدم معالجتها حتى حدود الساعة، زيادة على تعطل مسلسل التنمية وتعثر الاقتصاديات، وتراجع التعاون المشترك بين دول المنطقة، حيث لا تزال الحدود مغلقة، بالإضافة إلى انتشار تبني الآراء العنصرية والحاضّة على الكراهية ضد شعوب المنطقة والمنتشرة بشكل واسع في الأوساط الشعبية فيما بين الأفراد العاديين وحتى النخب نتيجة تأثير التعبئة السياسية والتحريض الممارس طيلة العقود الماضية من طرف الفرقاء السياسيين وأطراف النزاع.
اعتبارات إنسانية واقتصادية واجتماعية تفرض استحضار مبادرات من قبيل إعادة إطلاق تجربة تبادل الزيارات العائلية فيما بين طرفي الجدار وهي التجربة المتوقفة منذ أكثر من 10 سنوات، وكذلك تجربة الحوار الثقافي بين النخب المحسوبة على أطراف النزاع، والتي عقدت العديد من جلسات الحوار المتعلقة بها في إطار إجراءات بناء الثقة التي دشنها المبعوث الأممي السابق كريستوفر روس، قبل أن تتوقف هي الأخرى، بالإضافة إلى مبادرات ومقترحات لم ترَ النور أصلاً من قبيل تدشين خط بري بين الطرفي.
مبادرات من شأنها أن تفسح المجال لحوار جدي وحقيقي فيما بين النخب المستقلة، ما سيسهم في تقريب وجهات النظر بين أطراف النزاع وبلورة الحلول والمقترحات، كما من شأنها أن تتيح للغيورين على المصلحة العامة -أفراداً وجماعات- أن يطلقوا المبادرات الشعبية والمدنية للمساهمة بمختلف الجهود في تخفيف معاناة أهلنا في المخيمات.
فبالنظر إلى التجارب السياسية والإنسانية المتعلقة بنزاعات وقضايا دولية مشابهة للنزاع الصحراوي، يلاحظ حرص السياسيين على فصل المسارات الإنسانية والاقتصادية عن السياسية، فحتى كيان إسرائيل المحتل للأراضي الفلسطينية نجده يسمح بتمرير القوافل الإنسانية من حين لآخر ويفتح المعابر الحدودية التي يسيطر عليها في وجه الفلسطينيين، وفي الجزيرة الكورية تعمل الدولتان المتصارعتان بالإضافة إلى تنظيم الزيارات العائلية فيما بين الأسر التي فرقت بينها الحرب الكورية، تعملان على إنشاء مناطق مغلقة للتصنيع عند الحدود تستثمر فيها الشركات الكورية الجنوبية فيما تستفيد العمالة الكورية الشمالية من العمل فيها تحت رقابة سلطات كوريا الشمالية، كذلك الأمر بالنسبة للعلاقات بين دولتي الإمارات وإيران، فرغم الصراع على الجزر الثلاث في بحر العرب فإن إيران تعد من أهم الشركاء التجاريين لدولة الإمارات، والأمر نفسه بالنسبة للعلاقات بين القوة العظمى الصاعدة الصين الشعبية وجزيرة تايوان، فرغم عدم اعتراف الصين بتايوان والمطالبة بها، فإنه تجمعهما شراكات تجارية وصناعية، حيث تزداد المبادلات التجارية فيما بينهما، كما تتزايد أعداد المسافرين والزوار بين البلدين، وبشأن الصراعات التاريخية، فالملاحظ هو سعي مختلف الأطراف إلى طيِّها والعمل على تجاوزها، فحتى تلك الأنظمة المنغلقة والمناوئة للغرب ككوريا الشمالية وكوبا نجدها تسعى للجلوس على طاولة المفاوضات مع أعداء تاريخيين لها كالولايات المتحدة الأميركية، لمناقشة القضايا المصيرية التي تعرقل تطبيع العلاقات فيما بينها، في حين يحرص الإيرانيون على تسوية ملف حسّاس هو الملف النووي سعياً وراء إنهاء الحصار الاقتصادي المفروض عليهم وتحقيق النمو الاقتصادي، الأمر نفسه ينطبق على تجارب من قبيل الصراع الإثيوبي الإريتيري الذي أنهاه زعيما البلدين بعد قرابة ثلاثة عقود من الزمن من الحروب والقطيعة.
غيض من فيض التجارب الدولية الهامة ساهمت من خلالها قيادات سياسية صاعدة في طيّ ملفات عالقة كبرى وفي تحقيق الرفاهية والازدهار لشعوبها، تؤكد جميعها ضرورة تجاوز الخلافات السياسية والسعي لتحقيق التنمية بما يضمن رفاهية الشعوب قبل أي اعتبارات شوفينية وطنية أو شعوبية ضيقة، اعتبارات تفرض الحرص على تجاوز العقبات وتقديم التنازلات الكبرى والمصيرية، فهل يعتبر السياسيون الذين يحتكرون تدبير ملف حساس ومعقد من قبيل ملف النزاع الصحراوي، أم سنمضي عقوداً أخرى من الزمن في ظل استمرار المعاناة الإنسانية للاجئين وعرقلة التنمية في المنطقة وتراجع اقتصادياتها الناجم عن التصعيد والتأزيم والتهديد باندلاع الحروب لا قدر الله؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.