عندما تناقلت الشبكات الإعلامية المختلفة خبر استقالة للقضاة الفلسطينيين بطريقة جماعية، استمتعت بفكرة، متخيلة في رأسي الساذج. فمع كل التخبطات على الأرض المجتمعية، والتزايد العجيب للعشائرية وغياب حكم القانون، ظننت أن القضاة وصلوا إلى مرحلة قرروا فيها الانتفاض والمطالبة بدورهم في تحقيق العدالة.
يعني في النهاية، الموضوع العشائري يمكن صبه في الشخصنة بالنسبة للقضاة، فالمحصلة لما يجري من غلبة للعشائرية هي تهميش لدور القاضي. تنتهي الحاجة المجتمعية لهذا المنصب الكبير أمام صك عشائري يكلف فنجان قهوة وفراش عطوة يتقاسمه أصحاب الخير من رجال الإصلاح!
ولكن، على ما يبدو فإن القضاة يلتمسون الجلسة العشائرية لإصلاح أمرهم، أو بالأحرى لتحسين حقوقهم. تبين أن موضوع القضاة مرتبط بإشكاليات التعيين وسن التقاعد ولمن صلاحية التعيين والفصل.
بكل جدية، وبعيداً عن أي محاولة للسخرية، أشعر وكأنه لم يعد هناك أي حاجة للكلام أو التعبير. لا يوجد ما يمكن أن يحلل وليس هناك ما يتم تقديمه من آراء، فما يحدث يتربع الهزلية والمأساوية في حالنا الفلسطيني.
كيف وصلنا إلى هنا؟
لا داعي كذلك للسؤال، هذا ما يحدث عندما نبني دولة على وهم السيادة.
يتحول كل ما فيها إلى مراكز ومصالح خاصة، ثم يتفرغ الإنسان لاستلاب ما يمكن نهبه لكي يعيش. مشهد سريالي لا يحتاج إلى تحليل، كما في البؤساء. ليس في القصة المقروءة، ولكن في تجسيد بوسي وفريد شوقي لمشهد نهب بعد غارة حرب!
عند التفكير في كم الاستثمار من أموال المانحين لقطاع العدالة وسيادة القانون على مدار العقدين السابقين، تظن للوهلة الأولى أن الطبيعي هو ازدهار قطاع القضاء كمحصلة. في السابق كان القاضي عملة نادرة، أما اليوم، فالقاضي لا يحتاج إلا بعضاً من المؤهلات القانونية والواسطة المركزية ومن ثم إلى قرار رئاسي عند الترقية لما يترتب على أن يصبح القاضي متسلسلاً في تعيينه لدرجات مختلفة يتم التنافس عليها إدارياً.
ولكن في خضم هذا المعترك في فضاء القانون والقضاء والسيادة، نجد أنفسنا اليوم أمام فراغ مطلق من سيادة القانون وغياب لا يشوبه الشبهات من العدالة وتفشّ مرضيّ للعنف والانتهاكات والجرائم وسيادة أشبه بالمطلقة للعشائرية.
الحقيقة إنه بعد رصد المشهد الحالي في واقعنا الفلسطيني، فإن العشائرية هي الوضع المناسب للحكم في أمرنا.
فنحن شعب قبلي، لم تغير الشهادات التعليمية فيه إلا قشور التعلم.
لم تضف له البدلة والبنطال إلا شكلاً مضحكاً أمام داخله الملتف بالجلابية والقمباز.
كنا في السابق، وقبل ضخ الأموال فيما يسمى بسيادة القانون، ننهي مشاكلنا بفنجان قهوة لا يشوبه الصكوك، وكانت العطاوي مفخرة لرجال الإصلاح، والالتفاف نحو المجتمع أمام الاحتلال كان واقع الحال.
في السابق، كان في المحكمة الفلسطينية ثلاثة قضاة يهزون ويرزون الوطن. اليوم، القاضي في أحسن حالاته يشبه قاضي القضاة، وفي حالته العادية يتمنى أن يكون بهيئة قاضي القضاة، ولكن بالطبع أفضل، فهو حقوقي حق لا متشرعن.
لا أعرف ما الذي بقي من هذا الوطن.. التعليم مزرٍ، والصحة مأساوية، والقانون، يتسابق فيه القضاة لأخذ حقوق إدارية تبقيها، في ظل انهيار صارخ لمنظومة العدل التي تتربع فيها القبلية والعشائرية في أبشع صورها. تحول المجتمع إلى مجتمع رعوي، مستذئب. نشهد يومياً جرائم القتل والهتك التي تنتهي بصك عشائري. القانون يتم تطبيقه في شكل مخالفات وإجراءات، وفجأة كما نراه في هجمات على جودة المطاعم التي تبين أنها تبني قوائمها الغذائية على القاذورات والجراثيم والجرادين والديدان.
في وقت، تأملت ولو لوهلة، أن ينتفض الجهاز القضائي من أجل إرساء العدل المستباح في هذا الوطن. تبين أن المنظومة القضائية لا يمكن أن تكون مختلفة عن النسيج العام المصاب بالعبث في هذا الوطن.
في وقت تستباح فيه الأعراض، وينتهك الأمن والسلم الجمعي، تستمر المهزلة في عملية إلهاء لا تنتهي. نتلهى بالقضاة على أمل التوسط لهم لأخذ حقوق متعلقة بشخوصهم أكثر، ونترك الإصلاح في الخراب المتفشي، ونركب جميعاً ركب العشائرية.
العشائرية والقبلية هي ما نحتاج أن ندرسه ونطوره ونستثمر به؛ لأنها مآلنا الصحيح.
على الهامش.. يتم تنفيذ قرار الهدم في الخان الأحمر، هلا انشغل القضاة والحقوقيون في هذا الأمر ولو للحظة؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.