ثمة أحداث مفصلية في حياة الشعوب؛ لِما لها من تأثيرٍ واضحٍ وجليٍّ، سواء كان التأثير سلبياً أم ايجابياً، وسواء ظهر هذا التأثير عاجلاً أم آجلاً، ولعل من أبرز الأحداث المفصلية في حياة الشعب الفلسطيني والعربي ودولة الاحتلال هو اتفاق أوسلو، الذي وُلد في يوم 13 سبتمبر/أيلول عام 1993.
إن اتفاق أوسلو يعني بناء كيان سياسي جديد يقوم على إدارة شؤون الشعب الذي سيصبح تحت إدارة هذه السلطة، وهذه السلطة ستكون بصلاحيات متواضعة، وأهم صلاحياتها تتمثل في الجانب الأمني الحافظ لأمن الكيان الصهيوني.
ولمعرفة الإجابة عن "هل كانت أوسلو خطيئة؟ لا بد من أسئلة: هل كان اتفاق أوسلو رغبة صهيونية في تحقيق سلام وإنهاء مرحلة دموية مع الفلسطينيين، أم أنها ادّعت ذلك كي ترتاح من عبء البندقية الفلسطينية وتهذب سلوكها في أحسن الأحوال؟
هل كان اتفاق أوسلو عبقرية سياسية فلسطينية، ظنت القيادة الفلسطينية أن بمقدورها تحقيق الخطوة الأولى نحو تحرير فلسطين من خلال سياسة خذ وطالِب؟ أم أنه يندرج تحت فكرة "مجبرٌ أخاك لا بطل"؟
هل كان اتفاق أوسلو نتيجة وضع عربي بائس لا يرغب ولا يعرف ولا يقدر على مواجهة دولة الاحتلال، خاصة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد؟ وهل كان نتيجة رغبة دولية في إنجاز سلام بين الطرفين؟ وترى من الذي ربح من أوسلو؟
إن الحصول على الإجابة النموذجية يقتضي البحث في تفاصيل الاتفاق، والطرف الآخر، والرعاة، والشهود وأدوات تأثيرهما على الطرفين، مع ضرورة أن نستند إلى مبدأ "العبرة بالنتائج".
فبالنظر إلى تاريخ الطرف الآخر من اتفاق أوسلو والمليء بالحقد على كل ما هو غير يهودي، نخلص إلى أن اليهود -وهذا ظهر جلياً في القرآن الكريم- أهل مكر وخداع، وأن لهم باعاً طويلاً في المماطلةِ والمجادلةِ، فهم يُظهرون لين القول وفي قلوبهم حقد دفين على أصحاب الحق، حيث أظهروا أنهم يرغبون في تحقيق سلام مع الطرف الفلسطيني، لكن هدفهم كان هو إحضار العصفور الطائر والثائر ووضعه في قفص الدبلوماسية، ثم يملون عليه ما يحلو لهم، باعتبار أن العصفور وهو في القفص لا يملك من أمره شيئاً.
وبخصوص راعي الاتفاق، كلنا يعرف أن أميركا هي أم دولة الاحتلال، وهي سر بقائها، وإكسير الحياة بالنسبة لها، ودولة الاحتلال بالنسبة لأميركا هي شجرة تسهر على رعايتها كي تبقى شامخة وتنمو نمواً تحقق أميركا من خلالها أهدافها. وانطلاقاً مما سبق، فإن منطق الأشياء يقول إنه من المستحيل أن ترعى أميركا اتفاقاً فيه ضرر ولو بسيط لشجرتها.
وبخصوص الشهود، فإنهم لم يحيدوا عن الرؤية الأميركية لفلسفة الاتفاق، فقد كان دورهم أن ساعدونا في إحضار العصفور الطائر إلى القفص، ليخلوا لنا ولكم وجه المنطقة، ولكم ما سألتم.
وبخصوص الرغبة الدولية في عقد هذا الاتفاق، فالتوافق واضح بين دول عديدة حول ضرورة إنهاء هذه القضية بما يحفظ أمن دولة الاحتلال، وبما لا يقوي شوكة الفلسطينيين.
وهنا يُطرح سؤال من يطعم ويكسو ويعالج هذا المولود الجديد؟
شمعون بيرس في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، أكد ضرورة إيجاد دعم قوي ومستمر لهذه السلطة، فتطوعت دول كثيرة من أجل إخراج هذا المقترح إلى حيز التنفيذ، وكي يبقى القرار الفلسطيني رهن الرغبات الخارجية.
علامَ تم الاتفاق؟
قام اتفاق أوسلو على قضايا (اللاجئين، وحق العودة، والمستوطنات، والقدس، والدولة، والحدود)، وتم وضع جدول زمني لكل قضية، لكن وبعد مرور ربع قرن على الاتفاق، ما الذي تم إنجازه من هذه القضايا؟ هل عاد اللاجئون؟ هل تم تفكيك المغتصبات الصهيونية؟ هل تم الاعتراف بالقدس كعاصمة لفلسطين؟ هل تم معرفة حدود الدولة الفلسطينية؟
الإجابة واحدة على كل الأسئلة "لا"، فاللاجئون لم يعودوا؛ بل تسعى أميركا ودولة الاحتلال لإنهاء عمل وكالة غوث التي ترمز إلى معاناة اللاجئين، والقدس تم الاعتراف بها كعاصمة لدولة الاحتلال وصارت خارج دائرة المفاوضات، والمغتصبات أكلت مساحات شاسعة من الضفة الفلسطينية، والدولة المنشودة صارت كانتونات مبعثرة تأتمر بأمر المنسق الصهيوني.
بعد الإجابة عن الأسئلة الفرعية، نخلص إلى نتيجة مفادها، أنه وبالنظر إلى مبدأ "العبرة بالنتائج"، فإن كل النتائج الحاصلة الآن ترجح وتؤكد أن اتفاق أوسلو كان خطيئة فقط على الفلسطينيين.
ختاماً، سأستعرض رأيين لمن كان لهم دور مؤثر في تلك الحقبة:
الرأي الأول: الدكتور حيدر عبد الشافي، رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض، قال: "الاتفاق حمل تنازلات كبيرة في مجمل القضايا وعلى رأسها القدس، وخاصة ما يتعلق بالمستوطنات، إضافة إلى مسألة السيادة على الأرض، الاتفاق يحمل بذور فشله، وإذا لم تتحسن الأمور بعد المرحلة الانتقالية، فسيجري رفضه من قطاع واسع من الشعب، أنا أريد قيادة جماعية وأقول لأبي عمار لا يجوز أن تستمر في الانفراد بالسلطة، أبو عمار يجب أن يُقيَّد، وإلا وصلت الأمور إلى حد خطير، وأن نفاجأ بهذا الاتفاق وهو أمر خطير، القيادات الفردية لم توصل شعوبها إلا إلى الدمار".
الرأي الثاني: شمعون بيريس قال: "نحن لم نتخلَّ عن أي قطعة أرض، فغزة ليست قطعة أرض؛ بل مجتمع من الناس، وهي عار على خريطتنا، ونود أن نرى الناس هناك يعيشون بطريقة مختلفة، فلندع الفلسطينيين يتحملون أقدارهم، ستظل القدس متحدة، وستظل عاصمة لإسرائيل خاضعة للسيادة الإسرائيلية، والقدس ليست قِبلة العرب، فمكة هي قبلتهم في الصلاة، أما القدس فلها الأولوية في سياستنا وديننا".
وبمناسبة ذكر رأي بيريس في اتفاق أوسلو، وجب التذكير بما ذكره بيريس في كتابه "الشرق الاوسط الجديد" صفحة 13، وما دار بينه وبين أحمد قريع "أبو علاء" مسؤول وفد التفاوض الفلسطيني، حيث قال له أبو علاء: "إن هذه الاتفاقية هي هدية عيد ميلادك"، فيعقب بيريس: "يا لها من هدية فريدة لا متوقعة؛ بل يستعصي سبرها!".
بعد كل ما سبق، هل ثمة عاقل لم يقتنع بأن أوسلو خطيئة كبرى على القضية الفلسطينية؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.