لا ينبغي المرور مرور الكرام على التصريحات الخطيرة التي أطلقها الرئيس الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز، أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة الخاصة بالانتخابات التشريعية والبلدية الجارية في موريتانيا، التي اتّهم فيها حزب التجمع الوطني للإصلاح- تواصل بالتطرف والإرهاب.
تصريحات تعيد إلى الأذهان تاريخ العلاقة المتوترة فيما بين النظام الموريتاني والإسلاميين، التي شهدت العديد من فترات الشدِّ والجذب، خاصة منذ وصول الرئيس الحالي محمد عبدالعزيز إلى سدة الحكم سنة 2008، فالحزب الإسلامي الذي رخص له الرئيس الحالي مباشرة بعد وصوله للسلطة بعد الانقلاب العسكري، الذي أطاح بحكم الرئيس الموريتاني المنتخب سيدي ولد الشيخ عبدالله، قبل قرابة العقد من الزمن، فترة تمكّن خلالها الحزب ذو الميول الإسلامية من تحقيق نتائج هامة في مختلف المحطات الانتخابية التي شهدها حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز، محطات أظهرت تمتّعه بقاعدة انتخابية واسعة، وضمنت تزعّمه للمعارضة الموريتانية منذ النيابيات السابقة.
فترة وجيزة قياساً لعمر العديد من الأحزاب التي تشارك في العملية السياسية في موريتانيا، أظهرت قدرة الحزب الفتيّ على تأطير عدد كبير من المنخرطين والمناصرين، وكسبه للمزيد من المتعاطفين، ما مكَّنه من مواجهة الحزب الحاكم "الاتحاد من أجل الجمهورية"، في مجموعة من الدوائر الانتخابية، التي كانت حكراً على النظام، بما في ذلك تلك التي يترشح فيها بعض رموز النظام، كالعقيد المتقاعد الشيخ ولد باية، المقرب من الرئيس الموريتاني، وحتى في بعض المناطق التي كان يتحكم فيها الشيوخ والوجهاء التقليديون المعروفون بولائهم للنظام، ما أظهر الحزب الإسلامي بمظهر الخصم الأبرز للحزب الحاكم من بين أحزاب المعارضة.
ففي بداية حكم محمد عبدالعزيز، شهدت علاقة النظام بالإسلاميين نوعاً من التفاهم، خاصة إبان فترة صعود قوى الإسلام السياسي في العديد من دول العالم العربي، إبان موجة ما عرف بثورات الربيع العربي، تفاهم ترجمته العديد من الإجراءات الرسمية التي أقدمت عليها السلطات الموريتانية، من قبيل إقدامها على إصدار الترخيص الخاص بحزب التجمع الوطني للإصلاح- تواصل، ثم السماح له بالدخول في المعترك السياسي، وغضّ الطرف عن الأذرع الاجتماعية والثقافية وحتى الدعوية المحسوبة عليه، بالإضافة إلى توفير الغطاء الرسمي للعديد من أنشطته، خاصة تلك المتعلقة بدعم نضالات الفلسطينيين والتضامن مع غزة، واستقبال رموز ومرجعيات إسلامية دولية كالقرضاوي وخالد مشعل وغيرهما.
لكن فترة التفاهم تلك لم تدُم طويلاً، فسرعان ما ستنتقل تأثيرات موجة الثورات المضادة للربيع العربي إلى موريتانيا، حيث سيعلن النظام الموريتاني عن انخراطه في التحالفات الدولية، التي تقودها السعودية والإمارات في المشرق العربي، بعد زيارات رسمية شهدتها موريتانيا لوفود سعودية وخليجية، أعلن خلالها عن تلقّي موريتانيا لوعود باستثمارات وتعاون ودعم اقتصادي خليجي، لتعلن موريتانيا بعد ذلك عن تأييدها للسعودية والإمارات في الحرب التي تخوضانها في اليمن، والمشاركة في العديد من التدريبات والمناورات العسكرية التي تنظمها السعودية مع حلفائها العسكريين، كان أبرزها مناورات رعد الشمال…، تقارب موريتاني سعودي سيترجم في شكل إجراءات رسمية ستقدم عليها موريتانيا بحق إحدى أهم الهيئات المدنية المقربة من حزب تواصل، حيث سيتم إغلاق جمعية المستقبل الدعوية التي يرأسها العلامة محمد الحسن ولد الددو، الذي يعتبر أحد أبرز الرموز الإسلامية في موريتانيا.
حالة الشدّ والجذب فيما بين الإسلاميين والنظام سترسخ المواقف التي عبَّر عنها حزب التجمع الوطني للإصلاح، بشأن التعديلات الدستورية التي دعا إليها الرئيس الموريتاني قبل عام ونيف، حيث عارض الإسلاميون تلك التعديلات التي ألغت الغرفة الثانية في البرلمان الموريتاني، وغيَّرت علم البلاد والنشيد الوطني، لكن حصول حزب تواصل على المرتبة الثانية في الانتخابات النيابية الجارية وتزعمه للمعارضة، قد يجعل الإسلاميين في مواجهة مساعي الرئيس الموريتاني في إجراء تعديل دستوري آخر عن طريق البرلمان هذه المرة، يهمه السماح له بالترشح لعهدة رئاسية ثالثة، بحسب ما عبر عنه محمد عبدالعزيز نفسه، إبان الحملة الخاصة بالانتخابات الجارية، خاصة إذا فشل حزب الاتحاد من أجل الجمهورية في الحصول على أغلبية الثلثين، التي يتطلبها أي تعديل دستوري يمرّ عن طريق البرلمان، الأمر الذي قد يفتح باب المواجهة مجدداً مع المعارضة التي قد تحرز مجتمعة الثلث المعطل، ومع الإسلاميين الذين يتزعمونها على وجه الخصوص، وبالأخص في حال قرَّرت المعارضة النزول إلى الشارع للتعبير عن رفض تلك التعديلات.
وفي ظلِّ التكهنات المتعددة حول العلاقة ما بين أحزاب المعارضة والنظام بخصوص التعديل الدستوري المرتقب، يذهب متابعون إلى استحضار مجموعة من السيناريوهات، أبرزها إلى إمكانية إقدام الرئيس الموريتاني على حل البرلمان، ما سيتطلَّب توظيف مواجهة الإسلاميين، الأمر الذي يُبَرِّر التصريحات التي عبَّر عنها الرئيس محمد عبدالعزيز إبان الحملة الانتخابية الأخيرة في حقهم، التي وصفهم فيها بالمتطرفين.
فحملة التشويه والشيطنة التي انخرط فيها العديد من السياسيين والإعلاميين والمدونين في حق الحزب الثاني بموريتانيا بعد الحزب الحاكم بحسب النتائج الأولية المسربة للانتخابات الأخيرة، تؤكد سعي النظام إلى حلّ الحزب الإسلامي الأبرز في موريتانيا، كما تؤكد ارتباط النظام الموريتاني الواضح بأجندات دولية، معروفة بعدائها للحركات الإسلامية، تتزعمها كلٌّ من الإمارات والسعودية، وينخرط فيها النظام المصري والعديد من دول المنطقة.
فإقدام النظام على خطوة من هذا القبيل بحقِّ حزب إسلامي يشارك في العملية السياسية، ويحظى بقدر كبير من الانتشار والتأييد في الأوساط الشعبية، بفضل مجموعة من الأذرع والأجنحة الدعوية والاجتماعية والإعلامية… يعني إمكانية فتح المنطقة على المجهول، وإعادة تكرار تجارب دموية خطيرة قبيل التجربتين الجزائرية والمصرية، في ظل الوضع الأمني الهشّ الذي تعيشه موريتانيا والمنطقة.
تواجد حزب سياسي إسلامي معتدل يشارك في العملية السياسية يعتبر بمثابة صمام أمان بالنسبة للوضع السياسي والأمني بموريتانيا، كما يعني احتضان وتأطير عدد هائل من المحافظين والمتدينين، خاصة في أوساط الشباب، عبر الهيئات السياسية والاجتماعية والدعوية التابعة للحزب، أما حَظْره فيعني ترك فئات واسعة من المتدينين عرضة للتأثر بدعاية الحركات الجهادية والمتطرفة، وربما حتى التكفيرية التي ترى بوجوب الخروج على الحاكم، وتحتكم إلى السلاح بدل العمل السياسي والانتخابات، في محيط إقليمي موبوء يتسم بضعف السيطرة الأمنية على مناطق شاسعة في دول الجوار الموريتاني، سبق أن شهد حروباً أهلية وتدخلات عسكرية دولية، كما شهد انتشاراً واسعاً للحركات الجهادية المسلحة، التي خاضت حروباً ونظّمت الكثير من العمليات العسكرية، خاصة في دول مالي والنيجر وليبيا، وحتى في موريتانيا نفسها في فترات سابقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.