كان الشرق بأديانه وتناقضاته وحضارته يعني له أماكن مقدسة وتراثية حدَّ الإبهار، وكان يعشق إفريقيا بتضاريسها ورقصاتها الشعبية وثروتها المنهوبة من قبَل الأعداء والأبناء. حدّثته بلغة سويدية ممزوجة بالصومالية، حدّثته عن قريتنا القديمة وإبل أبي، ونظرات جدَّتي للحياة، وتعويذتها التي تجزم أنها تقي العين وتدفع الشر وتبدد الحظ السيئ، وعندما حدثته عن عمي الشاعر الذي وصف الحروب والميثولوجيا الصومالية والجواد الأصيل والمحيط والأنهار والحسناوات الصومالية بشِعره اللطيف، ولغته الرصينة، شعرت في عيونه العميقة نشوة الأدب، وتأثير الفن، ومسح صلعته، وفغر فاه المائل إلى الصفرة.
عمّي كان الناطق الرسمي للقبيلة في زمن الحروب القَبَلية وإعلامها المؤثر في ذاك الزمن، في تلك الفترة الزاهية بالأقواس والسيوف والتروس لم يكن المجتمع بحاجة إلى القناة الثانية السويدية، ولا سي إن إن، ولا الجزيرة، ولا القنوات الصومالية الضعيفة التي تستقوي بكلمة "العالمية"، وكأن الكلمة تنقلهم من الضعف الإنتاجي والإداري إلى مصافّ القنوات الرائدة إعلامياً، بل كان الشعر يتكفل بنشر محاسن القبيلة، وبث الرعب في صفوف الأعداء بهجائه اللاذع وذمه القاتل للقبائل.
الحياة في المنطقة صعبة وباردة، والطقس لا يسمح بالتجول وركوب ناصية الأحداث، افترقنا والسويدي العجوز على أمل اللقاء، غمرتنا الحياة، ورجعت إلى الملجأ المجاور للحنين والجبال الجليدية، كنت أفكر دائماً أن أتسلق وأجلس على قمة الجبل، ولكن هذا غير مسموح به مطلقاً، ويعتبرونه مغامرة غير محسوبة العواقب، أما متمرد يحمل في جيناته مناهضة التقيد والروتينية فكانت أمنية غير مستحيلة أجّلتها إلى زمن غير مسمى، أو على الأقل إلى أن يصفو الجوّ، وتنتهي البرودة.
من بين جميع خلق الله يتذمر الصومالي من السجن الكبير؛ إذ يعتبر الخيمات المتناثرة على البقعة الجليدية النائية سجناً مفتوحاً إلى السماء، ومنذ أن خلقه الله في القرن الإفريقي لم يخضع الصومالي للأسلاك الحدودية ولجام الطبيعة ولا لمضايقات الجغرافيا والحدود المصطنعة، بل يرحل بعيداً نحو الماء والكلأ والحرية، يترنم بأشعار الرعاة، ويستعد للقتال من أجل حفظ مقدراته ومبادئه.
خضع للاستعمار الأوروبي وتعرّض للتبعثر الجغرافي، ورغم ذلك لا يهاب ولا يعترف بالقيود الوهمية، ولا يستسلم لنظام المعابر والتأشيرات، يتنقل في داخل أرضه التاريخية بكبرياء البدويين، ويتمسك بهويته الصومالية، ويتبختر بمظهره، ولا يخفي معتقداته، وإن كان في البيت الأبيض أو قصر الاتحادية في بريتوريا، وكتب التاريخ أن الصومال التي خضعت للاستعمار الأوروبي بدءاً من البرتغال ونجدتها إبّان جهاد الإمام أحمد جري، مروراً بالاستعمار الرباعي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لم يوجد صومالي أثرت فيه جزرة الاستعمار ولا سطوة المحتل، لم يؤثر فيه لغوياً ولا دينياً ولا ثقافياً، بل رحل المحتل فرحلت معه لغته وتاريخه وتراثه.
عندما كنت في الصومال كان حرق الغابات من أجل إنتاج الفحم وبيعه من أمتع الأشياء التي أمارسها في حياتي، لم يكن مصدر رزقي الوحيد فحسب، بل كنت أُظهر رجولتي وحيويتي لبنات الحي وأتراب القوم.
على الضفة الشرقية للنهر التاريخي الذي ارتبط اسمه بالمكون الثقافي والزراعي والنضالي للصومال، كانت الغابات الاستوائية تشكل حاجزاً منيعاً بين الغزو الجارف للجبال الرملية المحاذية للمحيط، وبين المراعي الطبيعية والقرى الممتدة بامتداد الطريق الذي يشق الغابات الاستوائية نحو العاصمة، كانت الحكومة الصومالية تكافح هذه الرمال عبر التشجير الكثيف.
وبعد انهيار الصومال انهارَ معها الأمن والاهتمام البيئي والإنساني، وأصبح تأمين لقمة العيش من أصعب الأشياء، بل يحتاج إلى نضال بطولي وكفاح لا يقل ضراوة عن ذاك الذي خاضه الأجداد من أجل انتهاء الليالي الحالكة للكولونيالية الغربية على الأراضي الصومالية.
كنت أستخدم مهارتي السابقة في تسلّق الأشجار وحرقها، وفي خاطري ووجداني الصبياني كنت أعتقد أنني أسهم في التصحر والقحط وتدمير وطني وتغيير المنظومة البيئية والتناسق الطبيعي، وكان الضمير يؤنبني ويعذبني في حلي وترحالي، ورغم ذلك لم أستطِع أن أتوقف عن هذا الفعل التدميري، حرق الغابات ومحاربة البيئة من أجل الفحم وتصديره إلى الخارج، وخصوصاً دول الخليج والهند والصين؛ لأنها كانت العمل الوحيد الذي كنت أُتقنه، إضافة إلى أنه كان منظراً رهيباً للتسلية! نعم للتسلية والإمتاع، حيث كان منظر الغابات وهي تحترق وتلتهب وقعقعة الأغصان والشرر المتطاير وألسنة الدخان المتصاعد من الجذوع والأغصان الرطبة، جميلاً يستحق العناء في مخيلة طفل نشأ في الفوضى والتدمير.
البقع الداكنة بعد نقل الفحم إلى المدينة والأكوام الرمادية كانت تذكّرني بمَبارك إبل جدي في مرابعه النائية في السهول المتاخمة للهضاب العريقة غرب مدينة هرر، جدي سكن البادية من أجل متعته الخاصة ومبادئه الصارمة، في صغره هاجر إلى عدن، وسكن الحي الصومالي الذي كان يعج بملايين الصوماليين العدنيين الذين سكنوا المدينة منذ قرون، حتى أصبحوا من المكونات الثقافية والسياسية البارزة للمدينة، وبعد سنوات كان ضيفاً على حوافّي عدن وتاريخها، ذهب إلى الحج، وفي صيف 1956 رجع إلى الصومال عبر مقديشو.
كان شخصية ديناميكية عجيبة، وكانت مقديشو في تلك اللحظة حُبلى تنتظر ولادة يترقبها العالم، بسبب المعارك السياسية الشرسة والحالة الصومالية المأزومة التي كانت بمثابة قنبلة موقوتة، بعد إجهاض الإمبريالية العالمية حلم "الصومال الكبير"، وتقسيم الأراضي التاريخية للقومية الصومالية إلى خمسة أجزاء من أجل إضعافهم، وتكريس التفوق الديني والعسكري والسياسي للإمبراطورية الحبشية التي تمثل "الكنيسة"، في حين تمثل الصومال بمكوناتها الحضارية والثقافية والدينية "المسجد".
والصراع بين المسجد والكنيسة والزعامة المطلقة للمنطقة بدأ في القرن 15م، ومنذ ذلك التاريخ كانت الحرب سجالاً بين الأُمتين إلى أن وصلنا إلى عهد الاحتلال الغربي الذي ساعد كثيراً أباطرة النصارى في المشرق الإفريقي.
عند وصول جدي إلى "حمر" كان السجال يدور حول مَن يحكم الصومال في السنوات العشر القادمة بعد إعلان الاحتلال الإنكليزي أبريل/نيسان 1950 انسحابه من الصومال بحلول 1960م، فيما شكّلت إيطاليا مجلساً يشبه البرلمان لإدارة البلد حتى 1960، التنافس الإيطالي – الإنكليزي على وصاية الصومال واختيار الصوماليين الطليان كان خياراً قاتلاً كلف كثيراً للشعب الصومالي الذي كان يحتفل بولادة عَلَمه الجديد وتوحيد شطرين من جسده الممزق.
في هذه الأثناء، وفي غضون أسابيع العرس الصومالي الوطني كان والد جدي الذي يصارع الموت في هضاب أوغادينيا ينظر إلى الشرق حيث يعيش ولده، توفّي الوالد قبل أن يصل الابن إلى ديار الحي، وفور وصول الخبر إلى حي ياقشيد في مقديشو سافر جدي إلى غرب الصومال، ويمَّم وجهه نحو العاصمة التاريخية للقومية الصومالية هرر قبل نكبة 1887.
بعد ثلاثة أسابيع من السفر والترحال وصل إلى الأهل فانهمرت الدموع من الأهالي ومن جدي البسيط الذي كان يحمل قلباً نقياً تشبع عن الهواء المشوبة برائحة الألبان والتصوف، بعد يومين بدأت مراسم التنصيب لتسلّم سلطة القبيلة المترامية، كان جدي الأكبر مهيباً، قامته الطويلة ولحيته ومكانته الاجتماعية وسبحته المميزة صنعت له لمسة صومالية بالغة الفرادة والتأثير، كان يحكم أكثر من مليون نسمة يسكنون في ربوع الصومال من الهضاب الغربية إلى المستنقعات الجنوبية في وامُو، وكانت أملاكه وثرواته مسجلة لدى الاحتلال البريطاني والإيطالي والحبشي، وكانوا يحترمونه ويعتبرونه رجلاً خطيراً تجب مهادنته.
ولتفهم الحكاية جيداً إقرا الجزء الأول من هذه التجربة:
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.