في جو يملؤه الوئام والألفة؛ والتآخي شعار وسِمة له، والإحسان إلى الجوار وتذكُّره وزيارته والسؤال عنه.. تكون ضيفاً عنده تارة ويكون هو كذلك عندك تارة أخرى، تتبادلان القصص والكلام الطيب وأخبار الحياة وحكاياتها..
وأحياناً ترتحل إلى البادية والمكان الأصل؛ المكان الذي يرجع كلنا إليه، الأراضي الواسعة، المزارع، والحيوانات؛ والحياة البسيطة وطريقة الإنسان البسيط.. فهناك تلتقي الأقارب والأهالي؛ ومع كل من قد بعدت الشُّقة بينكما، فحينئذ تتفقد عن أحوالهم ويسألنون عنك أيضاً.. وتسلّمهم أغلى ما عندك مما جلبت من المدينة؛ لعل تلك الهدايا تقرب قلوباً قد بعدت بعضها عن بعض برهة من الزمن، ويؤثر مفعولها على كل من تسلمها.
كان ذلك نزراً يسيراً وطفيفاً من حياتنا التي خلت، وابتعدت عنا، ولم نعد نحظى بها في حياتنا اليوم، فالمنازل الكبيرة والواسعة للضيوف والمارة، ومعرفة أحوال الجيران، وتفقد المعارف، كل هذا وغيره لم يعد وارداً في حياتنا، وتحولت حياتنا إلى طريقة لم نفهمها بعدُ ولم نجد لها تسمية مناسبة لها بعد؛ لأنها تزيد علينا عبئاً بعد آخر.
ولو نظرنا إلى طريقة الحياة لدينا لأيقنَّا بأنها الطريقة المثلى لقتل الإنسان ومشاعره وأحاسيسه الطبيعية.. فانتشار مفهوم المجاملات والكذب وحب الشهرة قد طغى على كثير من مبادئ الإنسان القيّمة والأصيلة؛ من الجدية والاجتهاد والولاء للحق والكسب الحلال..
وانتشرت أيضاً ثقافة الشخصنة والمصلحية؛ والتي تعني أن الأهمية دوماً تكون لما يفيد الفرد فقط والمنفعة الشخصية، وأنها مقدَّمة على المصلحة العامة، وأنه لا يعني البقية، فالفرد هو وحده من يهم.. ونتاجاً لتلك الثقافة، كثر الاحتيال والسرقة البيضاء، والخيانة.
وتقول الكاتبة المغربية "إيمان" عن نمط حياتنا اليوم: "لن ننكر أننا نعيش انتكاساً جماعياً، اكتئاباً مُعدياً ينتشر كالوباء، ونفشل فشلاً ذريعاً حتى في الادعاء، ادعاء فرح لا نملك منه إلا بسمة، ما تفتأ تغيب ليحل مكانها طوفان مآسينا ومواجعنا؛ بل وأسوأ من ذلك، نحن نفشل حتى في التصنّع وحالنا مثيرة للشفقة جداً. واقعنا مليء بالبؤس واليأس والألم، مهما قاومنا ومهما ادعينا. الألم في كل مكان.. مع أخبار الصباح ومع وجبات الطعام وقبل النوم، كحبّات دواء مقيت نتجرعه علقماً بتوقيت محلي وعالمي ثم ننام.. لنستيقظ على وقع فجائع جديدة نزيدها بقائمة فشلنا الذريع في أسمى مهمة خُلقنا لنعيشها ونعيش لها ونؤدّيها.. الإنسانية".
أما مفاهيمنا الجديدة حول الإنجاز في الحياة، فهو يميل إلى الفردية؛ بحيث يربط كل منا نجاحاته بأنه تصرُّف فردي لا يرتقي إلى التكامل المجتمعي؛ فنقول: "فلان شخص ناجح، مؤسس شركة فلانية…". وحتى التدريبات والبرامج المشجعة للذات، ترتكز على الشخصنة فقط؛ لأن جل اهتماماتها هو تطوير النفس، وكيف يكون الفرد مكتفياً ذاتياً ومستغنياً عن غيره؛ ما يؤدي في النهاية إلى غياب مفهوم التعاون والعمل الجماعي وكذلك الخيري.. ولا حديث للتضحية في ذلك .
وأخطر ما يحصل في حياتنا اليوم، هو أننا نرى الإنسان مجرد آلة منتِجة، فالموظف في الشركة أو المؤسسة المعيّنة يكون ذا نفع وأهمية طالما يعمل كآلة ولا يرتكب أية أخطاء؛ فلو غيَّر مساره وحدثت ثغرة في أدائه يتم طرحه خارج السياج. أما عالم الموضة وإخوانه من عوالم النجومية، فيتم تصوير النجم المعين بأنه صنم يتم تزيينه وعرضه وإستخدامه لجذب المزيد من الاهتمام، فيصبح أداة للتسويق، ولو تغيرت ملامحه وظهر عيب في شخصيته فهو ساقط لا محالة.
وأخيراً وليس آخراً، مفاهيمنا المعوجّة، ونظراتنا المعكوسة للحياة أوصلتنا إلى أن يكون طَعم الحياة غير سائغ وغير مناسب… الحياة المناسبة هي التي ترى الإنسان كائناً له تقصيره وتميُّزه، وترى أن الحياة تكافل وتعاون بين بني البشر، ولا ترى أن المصلحية والمجاملة الدائمة أساساً للمضي قدماً.. وليس من أخلاقياتها السامية أن المكسب المادي فقط هو المهم؛ ولكن كسب الغير والإحسان إليه أمران في غاية الرقي الأخلاقي والتحضر الحقيقي.. وأن الحياة عمل وراحة؛ وتضحية وتنازل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.