يقول الإيطالي إنريكو دي لوكا: "الهدف من السفر أن ننسى نقطة الانطلاق"، صدق كاتبنا فقد واصلنا الرحلة الفريدة في نجمة الشمال الإثيوبي من دون أن نشعر بعامل الزمن ولا بتعب السفر ولا الإرهاق.. رأينا أن نزور المتحف الحربي الشهير الذي يطلق عليه محلياً اسم متحف "حولتي"، وهو يوثق لرحلة النضال والكفاح ضد نظام الديكتاتور منقستو هايلي مريام المعروف اختصاراً بنظام "ديرج"، وتتوسط المتحف مسلّة الشهداء وهي المعلم الأبرز في المدينة، حيث صارت شعاراً لها فما إن تُذكر مقلي أو Mekele إلا وتذكر صورة المسلة. ولابد من الإشارة هنا إلى أن لكل عاصمة من عواصم الأقاليم الإثيوبية شعاراً يميزها والنصب التذكاري في مقلي هو الشعار الرسمي للمدينة ولحكومة إقليم تغراي.
متحف حولتي.. وقفة مع تاريخ النضال
يستطيع الزائر للمتحف مشاهدة قطع من الأسلحة التي استخدمها الثوار ضد نظام منقستو، كما يمكن التعرف على وسائل الاتصال اللاسلكية المستخدمة آنذاك بين المقاومين على جبهات القتال. وداخل المتحف توجد الطائرة السودانية التي أقلّت ابن إقليم تغراي، رئيس الوزراء الأسبق الراحل مليس زنّاوي من الخرطوم إلى المدينة عام 1991م ليعلن بعد أيام قليلة سقوط نظام منقستو وسيطرة الثوار على مقاليد الأمور في إثيوبيا.
والمتحف عامر بصورٍ كثيرة تحكي وتوثق لأيام النضال وكيف عانت الأجيال السابقة لأجل إسقاط نظام "الديرج" الوحشي، ولذلك فإن حكومة الإقليم تشجع الطلاب والشباب وحتى الأطفال لزيارة المسلّة والتعرف على تاريخ الثورة وشهدائها. كما تضم منطقة المتحف التي تديرها هيئة السياحة في إقليم تغراي مكتبةً ضخمة إلى جانب مسرح تقام عليه الفعاليات الثقافية والسياسية وقاعة للاجتماعات والمؤتمرات الرسمية.
جامعة مقلي.. الصرح التعليمي الأبرز
من أكبر الجامعات في إثيوبيا، يدرس بها عشرات الآلاف من الطلاب في مختلف الكليات والتخصصات مثل الهندسة والطب والصيدلة والعلوم الإنسانية. وجدنا أن الدخول إلى حرم الجامعة يتطلب الحصول على إذن مسبق ولازدحام برنامجنا لم نستطع الحصول عليه فاكتفينا بالمرور على المبنى الرئيس حيث تقع بمحاذاته بعض الكافيهات الحديثة وبالقرب منه توجد عدد من الكليات التابعة للجامعة ومعهد خاص.
تناولنا الشاي والقهوة في الكافيه المقابل لمباني الجامعة وتجاذبنا أطراف الحديث مع ثلة من الطلاب والطالبات تصادف وجودهم معنا بالمقهى.. إذ أبدى بعضهم تذمراً من الضغوط الأكاديمية وكثرة الواجبات الجامعية، عندها قلت لهم، كل هذه المشقة والتعب الذي تشتكون منه سيصبح ذكريات جميلة لا تعود وستتمنون عودة أيام الجامعة والدراسة كما حدث معنا نحن ويحدث مع معظم الناس إن لم يكن كلهم. فهكذا هي الحياة لا يستقر لها حال والإنسان ملول بطبعه يحب التغيير لكنه سرعان ما يحن إلى الماضي وأيامه.
التجوال سيراً على الأقدام
اعتدال الطقس ونسمات الهواء الباردة يشجعان الزائر لنجمة الشمال الإثيوبي على ممارسة رياضة المشي والتسكع في ربوع مقلي المدينة التي تحفها الهضاب المرتفعة من كل الجوانب.. يشجع على ذلك طيبة السكان وبساطتهم فهم لا يتعاملون بتعالٍ أو غطرسة مع القادمين بل يبذلون المستحيل لأجل خلق انطباعٍ جيّد عن مدينتهم وكذلك ليس لديهم أسلوب استغلال السياح وزيادة الأسعار لهم كما يفعل بعض من ضعاف النفوس في مدنٍ ودولٍ أخرى.
وما أجمل الأمسيات هناك خاصة عند زخَّات المطر.. حينها تنهض جميع المشاعر لتغني مع "السيَّاب" رائعته أغنية المطر: (مطر.. مطر)، لتعلن بداية مرحلة جديدة مع أول قطرة هطلت، إلى حكايات ينبض بها القلب، بخفقاته على الوجنات والأنامل وعلى الطرقات الحديثة، لتجذبنا قطرات المطر حين تمتلئ بها النوافذ، وتزهر الأغصان وتطرب الطيور بأعشاشها فرحاً، وتلبس الأرض حلتها الربيعية مرجاً أخضر، فيعود رونقها، وتزدهر ثانية.
ماذا يمكنني أن أفعل في نجمة الشمال الإثيوبي؟
هناك الكثير من الأنشطة التي يمكن لزائر حاضرة إقليم تغراي ممارستها والاستمتاع بوقته في واحدة من أجمل المدن الإثيوبية بعيداً عن صخب العاصمة. ومن أهم الأماكن والأنشطة التي نوصي بها لزوار مقلي:
1- زيارة متحف حولتي ومسلّة الشهداء: الدخول إلى المتحف والنصب التذكاري لن يكلفك إلا شيء قليل من المال بالعملة المحلية "100 بِر" أي ما يعادل نحو 4.5 دولار أميركي. وكما ذكرنا يمكنك التعرف على تاريخ النضال والعتاد العسكري المستخدم في المعارك إلى جانب مشاهدة النصب التذكاري عن قرب.
2- الاستمتاع بالقهوة على طريقة أهل تغراي.. القهوة حاضرة في كل المجتمعات والأقاليم الإثيوبية لكن في إقليم تغراي وعاصمته مقلي تجد لها نكهة خاصة وتخيّرك صانعة البن بين القهوة الثقيلة والخفيفة.
3- التعرف على متحف الإمبراطور يوهانس الرابع ومشاهدة قصره ومقتنياته إلى جانب نسخة من مراسلاته التي تبادلها مع عدد من أقرانه الملوك والحكام في ذلك الزمن.
4- لِمَ لا تتذوق الأطعمة الشعبية وعلى رأسها "الطحلو" وهو من الأطعمة اللذيذة المفضلة لسكان مقلي.. وجبة تصنع من الشعير بعد تحميصه وعجنه بالماء البارد ويقطع على شكل دوائر صغيرة ليقدم مع اللحم المفروم والبهارات المحلية مضافاً إليهما نوع من "الصوص" يشبه اللبن الرائب.
5- ننصحك بالتجول في سوق مقلي الكبير والتعرف على أجزائه خاصة المنطقة التي يتم فيها بيع عسل جبال تغراي الشهير، وبالقرب منها يقع المسجد الذي يتوسط منطقة السوق.
6- إذا كنت تفضل الخروج من العاصمة مقلي فإننا ندعوك لزيارة مسجد النجاشي في منطقة "وقرو" التي تبعد نحو ساعة من نجمة الشمال، وجوار المسجد توجد قبور الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة من مكة المكرمة على فترتين.
7- عاصمة تغراي تشهد العديد من المهرجانات والاحتفالات السنوية أهمها مهرجان "آشيندا".. وكلمة "آشيندا" تعني عند قومية التغراي، العشب الأخضر الطويل الذي تلبسه الفتاة حول خصرها في المناسبة، ويعرف هذا المهرجان بعيد الفتيات فقط فلا يشارك فيه الشباب والرجال الذين يقتصر دورهم على حماية الفتيات، وتحتفل بالفعالية مدن وقرى تغراي في الفترة من 21 – 25 آب/أغسطس من كل عام.. ستكون فرصة طيبة إذا صادفت زيارتك للمدينة احتفالية "الآشيندا" أو الاحتفال برأس السنة الإثيوبية "11 سبتمبر/ أيلول".
8- عند زيارتك لمقلي ستلاحظ أن مياه المدينة مالحة تنعش الجسم، ولكن لمعايشة تجربة أفضل عليك زيارة منطقة "تمبين" الواقعة على بعد ساعة تقريباً.. بها مياه طبيعية رائحتها كنكهة الليمون ولا تحتاج معها إلى استعمال أي نوع من الصابون أو سوائل الاستحمام.
9- في مقلي العديد من المنتجات المصنعة محلياً مثل الأواني الفخارية التي يقدم فيها الأكل والشرب، إضاف إلى الأزياء الشعبية التي تحاك يدوياً ويرتديها الرجال والنساء.. الزائر للمدينة ستسنح له فرصة للتعرف على هذه المنتجات عن قرب.
10- إذا كنت مهتماً بالتاريخ، نوصيك بزيارة مدينة "أكسوم" المقدسة عند المسيحيين، وهي ليست بعيدة بالسيارة من نجمة الشمال.. تتميز بموقعها المتميز على سفاح جبال عدوة، وأكسوم مصنفة منذ عام 1980 ضمن مواقع التراث الإنساني العالمي.
11- وأنت في مقلي لا تنسَ أن تتذوق الفواكه المحلية الطازجة وخاصة المانجو والتين الشوكي فمنطقة تغراي تشتهر بمنتجاتها الزراعية الغنية ذات المذاق الطيب، المانجو والتين الشوكي تجدهما على قارعة الطريق في كل مكان.
ذات مساء حزين ماطرٍ انتهت رحلتنا الجميلة إلى نجمة الشمال الإثيوبي وهي الرحلة الأولى لي شخصياً في إقليم تغراي البديع.. اعتبرها زيارةً من نوع مختلف جداً فقد عدتُ إلى العاصمة أديس أبابا أحمل معي من الذكريات والمواقف ما ينسيني شجن الفراق.. لن أنسى التجوال في أسواق مقلي وأحيائها باذخة الجمال إلى جانب متحف حولتي وقصر الإمبراطور يوحنا، والجامعة الشامخة التي تحتضن نحو 22 ألفاً من الطلاب والطالبات. ولن أنسى كذلك جلوسنا صباحاً ومساءً في مقهى الشابة السمراء صاحبة الابتسامة الساحرة "فيري" والأطعمة الشعبية الشهية مثل الطحلو والشيرو.. سأظل محتفظاً بهذه الذكريات الرائعة إلى أن يجود عليّ الزمان بالعودة إلى نجمة الشمال مرة أخرى وآمل أن يكون ذلك قريباً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.