قد توهّم للواعظين بيننا من أهل المنطق القديم أن تقدم المُجتمعات هو نتاج طبيعي لطبقة كادحة من العلماء والمُحققين قد مهَّدوا حياتهم درباً شاقاً لخدمة أوطانهم، وربما توهم للطوبائيين منهم أن بغيهم كان خالصاً لاكتشاف حقيقة شيء من العلم ورفع لبسٍ من المغالطات، فقد يسترعي انتباههم صورةٌ راسخة خلقتها مُخيلتهم لباحث من أهل العلم مُنهمك على مكتبٍ خشبي، على يساره شمعة تقرُب فناءها، مُشتت التفكير، يختطف النظرات ذات اليمين وذات اليسار، وتدور عقارب الساعة وهو عاكف على فعله.
فإن سَلّمنا بقولهم فسيصلح حديثنا مُقتضباً فقط لقصص الأطفال أو المقاطع التحفيزية التي يزول أثرها بعد انتهائها بضعف مدتها وربما أقل بقليل.. ونغلق تباشير المقال إلى هنا.
إنما مادة هذا المقال نَشأت تبعاً لقانون أومن به أشد إيمان، وهو أن الواقع من يفرض كينونته على الفكرة طوعاً أو كرهاً، وقد يُشكل هذا نقداً صارخاً لأقاويل المتفلسفين لإخضاع العالم للفكر الإنساني، إن صح التعبير، حيث غَفل الكثير عن أن الفكر الإنساني المُؤثر في الوجود الموضوعي هو بالأصل مُتأثر بمُجمل نتائج أفعاله السابقة على أرض الواقع، فلا جدال في القول إن كُل تأثير مُحدثْ هو في الأصل مُتأثر بنتائج أفعال سالفة.
ما نُوجه نظرنا صوبه هو أن التطور في ذاته قائم على مبادئ المصالح المُشتركة سواء على المُستوى الفردي أو الجماعي، فذاك العالم المُحنك صاحب الحِكمة لا يُعطي بالاً للحقيقة وإظهارها للعالمين بقدر ما يُكرّس كل جهده لأن يسبق زميلاً له تصارعاً على المكانة المرموقة والاحترام بين الناس، وكيف سيصفقون له في دهشةٍ إذا رأوه، فلولا هذه النزعة من حب الذات وتفضيلها في أول مقامٍ لما تحركنا مرمى بصرٍ عن مملكة الأنعام تلك، وربما كُنا أدنى من ذلك؛ حيث تنحصر صراعاتها على البقاء الجسدي لأطول فترة ممكنة، ولا يخفى على القارئ أننا -الآدميين- غير صالحين لهذا النزاع الجسدي المحض بشكلٍ من الأشكال.
كما لا يهتم ذلك المُتمدن وجليسه في مُناظرة ما بإظهار عين الحقيقة للمتابعين بقدر اهتمام كُل منهم بسرد ما آتي به من استنتاجات حقٍ أو باطل، حيث يضرب بكل مفردات الحقيقة عرض الحائط، وربما يلجأ عند بؤس حُجته لبعض عناصر التحذلُق النحوي ليتصيد بعض الأخطاء اللغوية ليطرح حُجة جليسه أرضاً.
ولو سردنا تاريخ العقل الإنساني على طاولة التشريح ونظرنا في ذاته فلن نجد به ما يثير الانتباه، فهو كغيره من وسائل البقاء الحيوانية فعقل الإنسان كسرعة الفهد كأنياب النمر كَمكر الزواحف كتحليق النسور، إلا وربي كُل له مَنطقه الخاص وفطرته السوية ووسائله في التكيف والصمود وما قد يُزايد به الإنسان هو تلك النفخة الروحية الإلهية التي تَبِعتها تكاليف وأركان ونَتَج عنها حسابُ وعِقاب، إذاً فصراع الإنسان يُلخَص بكونه صراعاً عقلياً على نقيض ما سلف ذكرهم من ذوي صراعات البقاء الجسدية، وبهذا لا يُعقل أن يأتي من غير الإنس أحدٌ مِن أقصى المدينة يسعى..
وحتى نتجنب الانحراف عن مضمون طَرحِنا فنقول إن ما اتجه إليه الواعظون من نشأة المُخترعات والاكتشافات والنظريات على أُسس ومبادئ وغايات الرُّقِي بالمُجتمعات لا يمُسّ الصواب في أغلب نواحيه، فكُلٌّ يعمل لذاته وغايته، وأيضاً لمنصبه ومكانته بين أفراد مُجتمعه، تبعاً لتلك الفطرة الإنسانية التي لا نذمها بشكل من الأشكال طالما لم تتجاوز حدود المسموح منها.
رُب سائل يسأل كيف لنا أن نشهد مثل هذا التقدم على وتيرة المصالح الشخصية كما جاء في الادعاءات آنفة الذكر، فنرد بوجود علاقة طردية بين مدى المنافع الشخصية وانعكاسها على المجتمع سلباً أو إيجاباً.
فعندما يتنافس رجلان من أهل العلم حول فرضية ما، بغياً لإثبات صحتها وربما لخلاف ذلك، فعندما يخوض كُل منهم لينجوا من هذا التحدي، وفي الأخير يصل لحل تلك المُعضلة فسينعكس هذا النجاح على مجتمعه ثم دولته بالضرورة، وعندئذ يقال إن الدولة قد تطورت.
وبهذا نقول إن تقدم أي حضارة هو بالأساس يرتكز على التنافس ما بين العقول الفردية ومصالحهم الخاصة ومدى تقدُّم الحضارة يُقاس بالجُزء المُشترك بين تلك المصالح.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.