يعتقد كثير من الناس في عالمنا العربي، وقد يكونون محقّين في ذلك الاعتقاد، أن حاضر العرب المزري إنما يعود إلى بدايات القرن الماضي وما جاءت به اتفاقية سايكس – بيكو من تقسيم المنطقة العربية إلى مناطق نفوذ بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
ومع إدراكنا لصحة وقوة هذا الاعتقاد، أو تلك الحقيقة التاريخية، بخصوص اتفاقية سايكس – بيكو وتأثيراتها السلبية على المنطقة العربية من حيث المبدأ، إلا أن هناك عوامل تاريخية لعبت هي الأخرى دوراً في الحال المزري الذي وصلت إليه المنطقة العربية بشكل مؤسف.
ودائماً ما كان يحضرني السؤال التالي: إذا كان العرب يعتقدون جازمين أن الغرب سبب ما وصلت إليه أحوالهم، فلماذا لا يعملون على الأصعدة كافة من أجل الفكاك من حالة الهيمنة الغربية تلك على مقدّراتهم ومواردهم وقراراتهم؟
وأعتقد شخصياً، بكل تواضع، أن حاضر العرب الحالي، أو انتكاستهم، إنما هو انعكاس لجملة مؤثرات خارجية عانى منها العرب خلال القرون الماضية، تحديداً بعد عصر الخلفاء الراشدين، ابتداءً بسقوط بغداد الأول على يد التتار بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان، وما قام به من اقتحام مدينة بغداد وحرق ملايين الكتب ورميها في نهرَي دجلة والفرات وإبادة معظم سكانها، ومروراً بسقوط الأندلس بعد ثمانية قرون من حكم العرب لها واقترانه بعبارة قِيلت ووجدت لها مكاناً في التاريخ "ابكِ مثل النساء مُلكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال"، وأخيراً، وليس آخراً، زوال الإمبراطورية العثمانية بعد أن أصاب الضعف أركانها حتى أصبحت تسمى "الرجل المريض" قبل مئة عام من زوالها، ما اضطرها إلى تحديث "علمنة" قوانينها وأنظمتها اعتماداً على قوانين غربية، اعتقاداً غير محق ممن كان يتولى زمام أمورها أن المشكلة كانت تكمن في القوانين التي كانت سارية المفعول والمستمدة من الشريعة الإسلامية الغراء، وهو ما أثبت عدم صحته بعد فترة من الزمن، يدلل على ذلك زوال تلك الإمبراطورية التي حكمت معظم الشرق وبعض الغرب حتى بعد استيرادها لتلك القوانين والأنظمة الغربية.
ويحضرني في هذا السياق قول مأثور للفيلسوف الفرنسي الكبير جان جاك روسو، في كتابه الشهير العقد الاجتماعي الذي ترجمه للعربية المفكر الراحل عادل زعيتر: ".. وكانت لمحمد (صلى الله عليه وسلم) آراء صائبة جداً، فقد أحسن وصل نظامه السياسي، وذلك أن ظل شكل حكومته باقياً في عهد خلفائه، فكانت هذه الحكومة واحدة تماماً، غير أن العرب (بعد ذلك) أصبحوا موسرين متعلمين مثقفين مترفين مرتخين فأخضعهم البرابرة، وهنالك بدأ الانقسام بين السلطتين…".
وغالباً ما يقوم بعض العرب، إن لم يكن معظمهم، بإلقاء اللائمة على الغرب بشكل عام وبشكل كلي، بسبب ما وصلت إليه أحوالهم.
وحقيقة الأمر فإن هذا القول الذي أسمعه منذ نعومة أظافري، إن أمكن إخضاعه للتحليل المنطقي، فإنه يحمل في طياته جانباً من الصحة، خصوصاً فيما يتعلق باتفاقية سايكس – بيكو سالفة الذكر.
غير أنه يتعين علينا -نحن العرب- الإبقاء على مساحة للنقد الذاتي، أو ما يعرف باسم "جلد الذات"، وهو ما يضمن عدم بقاء الأمور على حالها في المنطقة العربية، وعدم سيرها نحو الأسوأ، ويؤدي بالضرورة إلى تدارك العثرات ونبذ الخلافات.
خلاصة القول: إن حاضر العرب الحالي إنما هو امتداد لقرون مضت وأحوال تبدّلت، يشمل ما أفرزته الحرب العالمية الأولى، التي جاءت ضمن سياق تاريخي محدد في حلقة من حلقات الضعف السابقة.
وأرى في هذا السياق ضرورة قيام نهضة تنموية وفكرية واقتصادية شاملة في العالم العربي، أساسها العلم والبحث العلمي، ابتداء من المنازل، ومروراً بالمدارس، وانتهاء بالجامعات؛ إذ بالعلم وحده تُبنى المجتمعات.
ويستلزم ذلك ضرورة الابتعاد عن تبرئة النفس مما وصلت له أحوال المنطقة العربية في الوقت الراهن، مع ما ينطوي عليه ذلك من إعمال مفهوم الإزاحة المعروف في علم النفس.
ولعل مساهمات العرب في العلوم في الغرب عبر العصور، تمثل بصيص نور في هذا النفق المظلم؛ حيث لعبت مساهمات العرب دوراً هاماً في نهضة الغرب. ولا ينكرون في الغرب تلك المساهمات، لا بل إنه يتم تدريس تأثير الحضارة العربية الإسلامية على العلوم في الغرب في مدارسهم وجامعاتهم، ويعقدون المؤتمرات الخاصة بتلك المساهمات، خصوصاً أثناء حكم العرب للأندلس التي شكلت مركز إشعاع حضاري وعلمي وإنساني اقتات عليه الغرب قبل عصر التنوير "النهضة" في أوروبا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.