أكبر مشكل واجه فلسفة السياسة هو فكرة ممارسة السلطة، لأن السلطة موجودة بطريقة أو بأخرى، والسلطة لا بد منها لممارسة الحكم أو لكي تقوم الدولة بوظائفها المختلفة، فنجد أهم سؤال يواجهنا هنا هو تحديد مشروعية السلطة، فتارة تحددها سلطة التقاليد، التي كان يمارسها كبار القبيلة وشيوخها، ومرة تحددها صفات وخصال القائد، وثقة الرعية فيه، وتارة أخرى نجدها في الغلبة الآتية من قوة عصبية القبيلة، وأخيراً قد نجد إرادة المجتمع كما هو الشأن في الأنظمة الديمقراطية، بالإضافة إلى ما سبق هناك عوامل لا تقل أهمية منها الدينية، العسكرية، الاقتصادية.. فمن خلال ما سبق يمكن أن نستخلص أن هناك مصدرين للسلطة، أولهما الفرد، ثانيهما المجتمع، لكل منهما ميزاته الخاصة به، نتج عنها أنظمة حكم مختلفة ومتباينة.
لكن شاع عندنا خلط شهير بين الأمة والسلطة والدولة والوطن، فالدولة هي تجمّع قانوني محدد جغرافياً والأمة هي تجمّع طبيعي عفوي، أما الوطن فهو الاسم العاطفي للأمة، فهو موجود في عمقها وهو محل تبجيل واحترام من طرف الأفراد، الإسلام السياسي بحد ذاته قائم على الخلط بين الأمة والسلطة، بينما لا يعترف أبداً بشيء اسمه الوطن.
لكن ماهي الأمة؟ وبأي دليل نتعرف عليها؟ في الأطروحات الفاشية، قيل إن هذا المفهوم يقوم على العرق، وهذا طرح باطل، لأن ليس هناك عرق خالص وأن بناء السياسة على التحليل الإثنوغرافي أو علم الأجناس البشرية، يعني بناءها على الوهم، فالتاريخ الإنساني مختلف تماماً عن علم الحيوان، والعرق لا يمثّل كل شيء في التاريخ الإنساني، مثلما هو الحال بالنسبة للحيوانات كفصيلة السنوريات مثلاً.
هل تتأسس الأمة على اللغة؟ ما قلناه على العرق ينطبق تماماً على اللغة، فاللغة هي من محرّكات الاتحاد، لكنها لا تجبر الناس عليه، فالولايات المتحدة وبريطانيا من جهة وأميركا اللاتينية من جهة أخرى تنطق بنفس اللغة لكنها لا تشكّل أمة واحدة. وعلى النقيض تماماً نجد أن سويسرا تحظى بقدر عال من التوافق والانسجام لأنها قامت على التوفيق بين مجموعاتها المختلفة التي تعد ثلاث أو أربع لغات. هذا يدل أن هناك شيئاً في الانسان اسمه الإرادة وهو أسمى من اللغة، إن إرادة السويسري في الاتحاد جعلته يصهر كل الاختلافات اللغوية في بوتقة واحدة.
هل تتأسس الأمة على الدين؟ حتى الدين نفسه عاجز تماماً عن توفير قاعدة لتأسيس قومية عصرية، فلم تعد هناك شعوب متجانسة دينياً وطائفياً، إذ كل إنسان يؤمن بدين ويمارس عباداته كما يشاء وعلى قدر استطاعته، وأصبحت مقولة "دين الدولة" لا معنى لها بغض النظر عن حقيقة أن الدولة كيان اعتباري ومؤسسات هدفها منفعة الإنسان والحفاظ على مصالحه وليست بشراً لكي تتدين أو تصلي أو تذهب للحج، فيمكن للفرد أن يكون جزائرياً أو مصرياً أو ألمانياً ويكون في نفس الوقت مسلماً سنّياً أو شيعياً أو مسحياً كاثوليكياً أو يهودياً أو غير معتنق أي دين ولا يمارس أي طقوس.
إن الأمة مبدأ روحاني، وتتكون هذه الروح وهذا المبدأ الروحاني من عنصرين لا يمثلان في الحقيقة إلا شيئاً واحداً، عنصر يرجع إلى الماضي وعنصر يرجع إلى الحاضر. أحدهما يتمثل في الامتلاك المشترك لتراث زاخر من الذكريات والآخر في التوافق والرغبة في التعايش معاً ومواصلة إثراء الإرث المشترك. الأمة عندي هي كالإنسان، هي نتيجة ماض طويل من المجهودات والتضحيات والإخلاص، وهذا ما يكوّن الرصيد الاجتماعي الذي يبني عليه الشعب فكرة قومية.
التاريخ الإسلامي فارغ من هذه التنظيرات، وهذا أمر مثير للريبة عندما تقرأ عن تاريخ مساهمات المسلمين في العلم بشتى مجالاته كالطب والفيزياء والرياضيات والصيدلة إلخ لكن إذا عرف السبب بطل العجب فكل المسائل التي كانت تتعلق بالسلطة والحكم كان عبارة عن خطوط حمراء بالنسبة للعلماء المسلمين وللفقهاء، وقد تركت كلّها لمصلحة الحاكم يصيغها كما يشاء، ولا يمكن أن نتغافل عن حقيقة أنه في التاريخ الإسلامي أن الديني خضع للسياسي دوماً، ففي فترة الحكم الأموي احتاج الخليفة إلى نصوص تدعم حكمه، فظهر فقهاء يصيغون له فقه الطاعة وينسبون المرويات للرسول والتي تربط معارضة الحكّام بالكفر، وفي الطرف الآخر أو المعارضة السرية، كانت تدعم وتحرّض أتباعها على الثورة بالنصوص أيضاً.
قد يقول قائل وماذا عن كتاب "الأحكام السلطانية" لأبو الحسن الماوردي؟ أقول إنه الاستثناء الوحيد، وفي قواعد اللغة العربية يقال بأن الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه.. هذا الكتاب حالة شاذة، ولم نر بعد أو قبله أي كتاب تناول علم السياسة لقد بقي المسلمون من دون مرجع سياسي يحتكمون إليه إلى غاية القرن الخامس هجري إلى أن جاء الماوردي وكتب كتابه، فضلاً عن أن تنظيرات الماوردي كانت مثالية وطوباوية حتى أنه وضع شروطاً للإمامة والقضاء سنّية بامتياز كأن يكون الخليفة ذا نسب يعود إلى قريش، في أرثوذكسية سنّية معزولة عن الحياة والواقعية التي تعد دعامة السياسة الأولى.
يترتب عن ما قلنا سابقاً عن مفاهيم السلطة والأمة، أن غاية الدولة ليست السيطرة، فرغم أن السلطة فيها شيء من الإكراه (التسليم بسلطة القانون)، الإكراه الذي يسمح بتكوين الرجل المتحضر، الرجل القادر على العيش في مجتمع الحرية. يقول الفيلسوف هايك: "إن الإنسان غالباً ما كان متحضراً ضد إرادته"، وبعبارة أخرى، فإن الإنسان الحر يعتمد على سلوكه الأخلاقي الذي يسمح له باحترام القانون، أساس الحياة في المجتمع.
لكن لم توجد الدولة لتحكم الإنسان بخوف، ولا لتجعله ملكاً على إنسان آخر، وإنما وجدت لتحرر الفرد من الخوف حتى يعيش قدر المستطاع في أمن أي حتى يحفظ قدر ما يستطيع دون ضرر بالآخرين حقه الطبيعي في الوجود وفي الفعل. إن رفاهية الفرد تعتمد على رفاهية بقية المجتمع، لذلك، لتكون حرّاً تماماً، يجب أن يكون المجتمع أيضاً حرّاً.
ولجعل المجتمع آمناً وحرّاً يمارس فيه الناس وظائفهم بكل أمان وليستخدموا هم أنفسم عقلاً حرّاً، ولكي لا يقوم الصراع بينهم بسبب الحقد، أو الغضب، ولكي يتحمل بعضهم بعضاً، وجبت قيام دولة محايدة لا تتعامل مع مواطنيها على حسب معايير الدين والطائفة والعرق والجنس التي قلنا عنها سابقاً أنها لا تصلح لتأسيس دولة يتعايش فيها الجميع لأنها معايير اختلف عليها البشر وليست محلّ إجماع، وهذه الدولة أساسها المساواة بين المواطنين.
فقط الإنسان البدائي من يتمتع بشخصية لا تتوافق مع الحياة الاجتماعية السلمية، وبالتالي يطالب بأن يخضع لسلطة قوية ولهذا يحن العرب اليوم إلى الديكتاتوريات الغابرة وقبلها إلى الإمبراطوريات الإسلامية. ومع ذلك أؤمن بأن الوضع سيتغير لأن تحرر الفرد دوماً كان بوتيرة بطيئة.. بحيث يتقدم من أقصى طرف حيث تكون الدولة هي كل شيء والفرد لا شيء والإمبراطوريات الإسلامية والديكتاتوريات العربية نموذجاً، إلى الطرف الذي يكون الفرد هو كل شيء.
ماذا عن فكرة المساواة؟ هذه الفكرة تعرّضت لتشويه لا مثيل له في مجتمعنا العربي، فالكثير يفسر مثلًا أنه لا يجوز المساواة بين الرجل والمرأة بسبب الاختلاف البيولوجي بينهما.. وبغض النظر عن هشاشة هذه الحجة والتي امتلأت الساحة بالردود الزاخرة عليها، يجب التذكير أن فكرة الدولة قائمة على المواطنة، جوهرها المساواة بين الناس.
مفهوما الدولة والمواطنة لم يتعرف عليهما الإنسان إلا قبل مائتي سنة فقط، لقد كانت الطبقية هي بديلة المواطنة، فهناك طبقة العبيد، ثم طبقة الحرفيين ثم طبقة النبلاء ثم الملك، وهذه الطبقات لا تتساوى في الحقوق والواجبات، وكذلك في الفكر الديني، كان المسيحي لا يستوي مع المسلم، ولا اليهودي مع الملحد، وبالعموم لا يستوي المؤمن مع غير المؤمن بدين وطائفة الأغلبية، حتى الأديان أرى أنها لم تعرف المساواة، لأن الدين ليس فكرة مجردة متعالية عن الواقع، الدين هو أيضاً ظاهرة اجتماعية تتأثر أيضاً بالواقع الذي ظهر فيه.
لكن الفارق أن الدين لم يدع إلى المساواة ولم يحارب الفكرة في نفس الوقت، فكرة المساواة ظهرت بظهور المواطنة، وبفضلها انتهت الطبقية، واتحد المجتمع وأصبح الملك مثل الحرفي ومثل الفلاح، الهدف واحد وهو خدمة المجتمع.. وعليه جوهر المواطنة هو المساواة، وأساس الدولة هو المواطنة، وليس هناك دولة من دون إعلان واضح للمساواة بين المواطنين بغض النظر عن اختلافاتهم، ومن المهم جدّاً أن أشير أنه ليس الكهنة من الدين المسيحي أو الإسلامي أو اليهودي فقط من حارب فكرة المساواة، بل بيّنت السياسية الألمانية الشهيرة "هانا أرندت" في كتابها "أسس التوتاليتارية" أنه لطالما كانت المساواة بين المواطنين أحد الهواجس الرئيسية التي راودت الأنظمة الاستبدادية والمتسلّطة التي تعاقبت على البشرية منذ القدم.
نحن نعيش في عصر انتشار المعلومة، ولم يعد باستطاعة أحد أن يحرّف أو يزيف الوقائع والمفاهيم، والآن اختفت هالات القداسة التي صنعت حول الفكر الديني وأصنامه، ويبقى الصراع بين مفهوم الدولة الحقيقي والاستبداد العسكري أو الإسلاموي متواصلاً لتناقض الأهداف، فما ينشده معنى الدولة الحقيقي يختلف تماماً عن ما ينشده الاستبداد العسكري والإسلاموي، هذان الطرفان الأخيران يجمعهما الحجر على حريات الناس وممارسة الوصاية عليهم والتشكيك في ولاء الناس للدولة، فالدولة المدنية هي نقيض للاستبداد العسكري الذي يتّهم مخالفيه بالخيانة والعمالة، وهي أيضاً نقيض لدولة الإسلامويين الدينية التي تتهم المخالفين بالإلحاد والخروج عن الدين وتأسيس الحياة على غيره، وإن كان الاستبداد الإسلاموي أشد خطورة وأنكى لأنه يريد التحكم في كل شيء، في الدين وعقول الناس، ومصيرهم وضمائرهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.