في كل جلسةٍ تجلسها مع أحدهم يحدثك عن الاستقرار وكيف يمكن للإنسان أن يستقر في حياته؟
أترى الثبات بمكان وبلدٍ معين منذ الولادة إلى الممات هو الاستقرار الحقيقي؟
أم الثبات بعمل ترغب فيه ويوفر لك الكثير من المال هو الاستقرار؟
ويبقى سؤال آخر: هل الزواج استقرار؟
أسئلة كثيرة نطرحها ولا نجد لها جواباً حقيقياً في النظريات ولا على أرض الواقع، ليبقى الحديث عنه مستمراً إلى يومنا هذا، بل تراه محور كل جلسة في الغالب.
أتذكر كثيراً من الناس سافروا لبلدٍ معين ليستقروا ويبدأوا حياتهم ولكن للأسف لم يحصلوا على ما يصبون إليه، فقرروا العودة إلى المربع الأول إلى اللااستقرار بعد أن قطع مسافاتٍ طويلة، ما زلتُ أتذكر نفسي حين ارتكبت حماقة أن أرتبط بعمل لا أحبه ولا أرغب فيه، وليس حلم حياتي فيه، لكني فعلتُ ذلك لأجل أن أتزوج من واحدة ما موجودة في هذا الكون الرحيب، لقد دفعتُ ضريبة الاستقرار بعمل لا أحبه لسنوات وربما يمتدُّ العمر أكمله وأنا لم أحصل على ما أصبو إليه.
ذهب كل شيء ولَم أعد مستمتعاً بعملي كثيراً ولعنتُ الاستقرار، وكل ما يمتُّ له بصلة، وكأني أتذكر القائل يقول لي: رحم الله الهوى كان صرحاً جميلاً فهوى، أجل هوى وهوى كل حلمٍ بعده لأكون أسيراً للعمل الذي لا أحبه إلى اليوم.
لقد قطعنا على أنفسنا أن نكون أسرى الأماكن والمؤسسات والوظائف والمناطق التي عمل وسكن بها آباؤنا، لقد عاش هنا ورحل إلى القبر من هنا، لقد كان مستقراً للأسف.
لماذا لا نتساءل كثيراً؟
لماذا لم يخلّدْ الإنسان في الحياة؟
أليس هو نفسه الذي يبحث عن الاستقرار في الدنيا ولكنه سيرحلُ يوماً ما عنها تاركاً خلفه كل شيء، وفي موروثنا الديني يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحبب من شئت فإنك مفارقه، لا استقرار حتى للكائنات الحية فهي تنتقل من مكانٍ إلى آخر، فالطيور والأسماك استقرارها بمكان معين يكون سبب بفقدانها الحياة، لا شيء حولك ثابتاً كل ما حولك في حركة مستمرة الكواكب والأرض والشمس، وحتى الذرات ومكوناتها، فكيف يمكنك أن تثبت وتستقر وسط هذا الكم الهائل من الحركة حولك.
فكرة الحياة تتجلى وبكل وضوح ألا استقرار فيها وإلى الأبد، من يكن يتخيلْ يوماً ما أن موظفاً على الملاك الدائم عند الدولة يُقطع راتبه لمدة ثلاث سنوات، لم تكن في مخيلةِ أحد ولا في حساباته ولكن حصل هذا الأمر لثلاثة ملايين إنسان في مدينة الموصل، عن أي استقرارٍ نتحدث إذاً، إن كان حصل كل هذا معنا.
ولعل معترضٍ على ما سبق يقول: ما الذي نصنع ألا نبحث عن الاستقرار؟
ابحث عن الاستقرار ولا تكن أسيراً له، واعلم أن الاستقرار نسبي في كل الحياة، لا تبحث عن عملٍ أبدي منذ الولادة إلى الممات، ولا تبحث عن زوجةٍ أبدية، ولا عن صديقٍ أبدي، ولا عن وظيفةٍ أبدية، كثيرٌ من الناس أصبح أسيراً للواقع في اليوم الذي شعر به بالاستقرار، وفاته كثير من الفرص ربما أفضل من مكانه المستقر بها، ولكن فوتها على نفسه أنه يحب الاستقرار ويعشقه ولا يدري أنه عبوديةٌ للواقع الذي يعيشه، وما زلنا نحتفظ بأسماء لامعة لكن أماتها وأجهز عليها الاستقرار، لقد وُلد بفكرةٍ تعلَّمها واستقر عليها ومات عليها، ولَم يجرؤ على قرار التغيير، فالفكرة المستقر بها تجلب الكثير له، والقادم في الغالب مجهول، لا يخدعك أحدهم بالاستقرار المطلق، فالاستقرار المطلق وهم وليس حقيقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.