وُلدت بداية الثمانينيات في ريف إدلب.. تحديداً جبل الزاوية.
لكن عندما بدأتْ عيوني تميز الأشياء بعد بضعة أشهر من عمري كنت خارج سوريا، لم أعِ حينها لماذا ترك والداي بلدهما وآثرا الغربة عن الوطن، وطالما سألت نفسي هذا السؤال البريء.
سماني أبي "محمد إقبال" على اسم المفكّر الشاعر من بلاد السند فقد كان والدي محباً للأدب والشعر، وعندما علمت أن لكل شخص من اسمه نصيباً، كانت بدايتي، تعلمت القراءة والكتابة مبكراً، دخلت المدرسة للصف الثاني مباشرة، وبدأت حفظ الشعر حتى أحببته فصغته فأصبحت شاعراً ثم كاتباً ومؤلفاً بسبب اسمي.
درست الابتدائية والإعدادية وبداية الثانوية في الغربة، هنا قررت أن آخذ الشهادة الثانوية التي تسمى البكالوريا في مسقط رأسي وبلدي التي لم أعش فيها حتى تلك اللحظة، طلبت من والداي ذلك، وافقا على مضض. سافرت إلى حلب، انتسبت إلى مدرسة العودة الخاصة المعروفة بشطارة طلابها، حتى أتى ذلك اليوم وأنا ذاهب للمدرسة سقطت مني محفظتي في حافلة الطريق، وفيها بطاقة أحوالي الشخصية أو كما تسمى في سوريا الهوية، ضاعت مع المحفظة، انتظرت أياماً لعلي أجدها لكن لم يحدث ذلك، أو أن أحداً وجدها وسيعيدها لي لكن أيضاً لم يحصل ذلك، في البداية لم أكترث للأمر ولم أقلق لأنها ضاعت، فهي مجرد بطاقة شخصية وليس جواز سفر مثلاً أو شهادة جامعية وأكيد الأمر بسيط، ذهبت إلى موقف الحافلات أكثر من مرة لعلي أتعرف على تلك الحافلة الصغيرة "السرفيس" لكن دون جدوى، مررت على قسم الشرطة في الحي لكن لم يُحضر أحد شيئاً لهم.
بعد شهر من البحث والانتظار قررت استخراج بطاقة جديدة لأني قد أحتاجها في نهاية العام الدراسي، وهنا كانت الصدمة والمواجهة الأولى لي بشكل مباشر في حياتي والتي لم أكن أتوقعها أو أتخيلها أبداً، ذهبت بكل ثقة إلى دائرة النفوس لأقدم طلب بدل هوية ضائعة، فأحالوني مباشرة إلى أحد الفروع الأمنية في إدلب وليس حلب لأن قيدي مسجل هناك.
دخلت إلى الفرع وكأنه غابة موحشة، الحيطان سوداء، رائحة دخان السجائر في كل مكان، الوجوه مكفهرة، الكل ينظر لي بازدراء، قلت في داخلي: "ما يكون مو عارفانين أني مضيع هويتي أو مفكرين أني مسوي شي عملة!".
أدخلوني إلى حجرة تحت الأرض، ثم بدأ التحقيق معي كأني مجرم حرب، نقلوني من غرفة إلى غرفة ومن ضابط إلى ضابط يتسلوا بي، "قرد إلى أي إسرائيلي بعت هويتك ولاك"، "قرد شو بدك تسوي ببطاقتين أحوال"، بعض ما قالوه لي بلهجتهم المعروفة، ضاربين بأيديهم مصباح الإنارة فوق رأسي ووجهي للجدار في غرفة مظلمة.
يا إلهي ما هذا، أنا ما زلت في أول شبابي وبداية حياتي وهكذا تعاملوا لمجرد أني أضعت بطاقتي الشخصية.
حينها عرفت جواب السؤال الذي طالما سألته لنفسي: لماذا غادر والداي وطنهما وآثرا الغربة، إنه الظلم وانعدام كرامة الإنسان في ذلك الوطن.
في تلك اللحظة رفعت رأسي ونظرت للأعلى وضمرت في نفسي ألا أكون لقمة سائغة لهم، بل سأشتغل على نفسي وأطورها حتى أكون أقوى منهم.
تعلمت عدة لغات، قرأت آلاف الكتب، سافرت إلى عشرات الدول بالعالم، تعرفت على الديانات والمذاهب، ناقشت حاورت ناظرت، تفوقت نجحت فزت ربحت، كله بسبب البطاقة الضائعة التي جددت حياتي.
أخذت الثانوية في سوريا وسافرت مباشرة إلى أوروبا هرباً من الظلم، درست الطب واشتغلت بالإعلام بنفس الوقت في غربتي الجديدة، حتى تخرجت في كلية الطب بعد 10 سنين دراسة، حينها قررت العودة مجدداً إلى مسقط رأسي وبلدي بعد أن قالوا لي إنه إجى رئيس جديد شاب وطبيب مثلك، رجعت وبداخلي طموح كالجبال العظام وخبرات وتجارب وعلوم وفنون ممتلئة داخلي، لكن لم يمض بضعة أشهر من عودتي حتى اعتقلوني من منزلي أمام أهلي وكأني سفاح، رشاشات حول المنزل ومصفحات وكتيبة، قلتلهم ليش كل هذا طيب، أشارولي على مكتبتي التي جمعتها بعرقي مجلداً مجلداً حتى بلغت آلاف الكتب، أخذوها كلها أمام عيوني وعجزوا عن حملها بالكراتين والصناديق وكأنهم أخذوا أحد أولادي، تنقلت بين عدة فروع أمنية حتى وصلت لفرع فلسطين في دمشق الذي سميته بعدها "غوانتانامو سوريا"، قالولي ليش أنت كثير هادئ، ما بتعرف الداخل لعندنا مفقود والطالع مولود، لكن عندما بدأوا بتفتيش كتبي احتاروا في تصنيفي، قالولي أنت مين، أجبتهم أنا كل هذه معاً، أنا أقرأ لأجل الثقافة ولأعرف المفيد والضار داخل هذه المؤلفات، قال هذا اللي جننا أصلاً.
ثم أنجاني الله منهم بسبب كتبي نفسها، التي كانت سبباً في اعتقالي ثم سبباً في نجاتي بمشيئة الله.
وعرفت قيمة البطاقة الضائعة التي جعلتني أشتغل على نفسي وأثقفها وأصقلها لكيلا يستطيعوا النيل مني بعد فضل الله.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.