لمّح ملك المغرب في خطاب العرش الأخير إلى عجز الأحزاب السياسية المغربية عن القيام بدورها كما ينبغي، آخذاً عليها تقاعسها في إغناء برامجها وعدم تجديد نخبها، وهي المعول عليها أن تلعب دور الوساطة والنيابة عن المجتمع، قائلاً بالحرف: "يتعين عليها استقطاب نخب جديدة، وتعبئة الشباب للانخراط في العمل السياسي".
على حاشية هذا التصريح الملكي إذاً سجلنا متوالية من ملاحظات جانبية تخص أنماطاً من النخب المغربية وعيوبها السياسية المفترضة.
لهذا لم يعد يصلح لنا رجال السياسة من الطينة القديمة:
التصريح الذي أعطاه مرة أحد المقاومين السياسيين القدامى ينمّ عن أن هناك مَن لا يزال يستحضر ثقافة سياسية تقليدية ارتدادية متوقفة عند محطة تاريخية توافقية مضت، ولا فائدة اليوم من استلهام تسوياتها الشفوية غير المتعاقد والمسطر عليها قانونياً.
خاصة أن أجيال اليوم في محك فترة حديثة، الكل فيها من جهته الفاعلة، صحافة وقوى المجتمع المدني ومؤسسات تشريعية، يحاول أن يعطي تأويلاً ديمقراطياً لتنزيل مقتضيات دستور جديد هندس لأول مرة توزيع السلطات بشكل واضح، وأضاف ووسّع صلاحيات تنفيذية جديدة لم يكن متوقعاً تشكلها نصياً حتى في عهد تكتل الأحزاب الوطنية التي كانت تنادي مراراً بالمشاركة، واقتسام مسؤولية الحكم ديمقراطياً مع المؤسسة الملكية، دون جدوى. فمن يصرح، وأعني هنا السياسي التقليدي، بأن تكريمه من طرف الدولة هو بمثابة تبادل الاعتراف والاهتمام بالخدمات التي يقوم بها بعض الأفراد لخلق "الثقة".
لا يفعل إلا أنه يتفوّه بكلام سياسي مصبوغ بحمولة التراضي والتوافق واستجداء "تبادل الثقة"، وبتلك الصيغة القديمة المعوجة في فهم لعبة السياسة، كما وضع ونحت قواعدها خصيصاً لأحزاب الحركة الوطنية، الراحل الملك الحسن الثاني، وهذا ليطمئن ألا يكون هناك مستقبلاً أي تنازع على المشروعية السياسية للنظام، وأن أفق الرهان يبقى دائماً معلقاً على التفاوض وثقافة التسوية الارتجالية! لقد كان هذا الموقف نوعاً من المزايدة من طرف السياسي التقليدي؛ لأنه كما هو معلوم، شرعية المؤسسة الملكية في المغرب والتفاف المغاربة حول أهميتها ودورها الجوهري والرمزي الوحدوي الثابت متفق عليهاً إجماعاً، فبالتالي صار النقاش حول دورها منذ فترة الاستقلال متجاوزاً، ولم يعد يثير أي إشكال دستوري إلا ربما لدى أصحاب النيات الانفصالية المبيتة.
ثم إن تفكير السياسي التقليدي ضيق ومبنيّ على عُرف سياسي ميداني عتيق ومحدود في ثقافته السياسية النظرية، وتصريحه تصويت استباقي شبه انتخابي على قاعدة الثقة، كاستمرار عقيم لما دون الانتقال الديمقراطي، الذي يبدو كأنه ما زال يراوح مكانه. فسنصيب كبد مومياء الحقيقة ونبدد هالة أسطورة الرجل السياسي التقليدي الذي يعشش كالرتيلاء في زوايا فناء السياسة الخلفي، ولا نمانع من وزن ثقافته السياسية شبه المنعدمة وضآلة قيمته بين النخب المغربية العالمة الثقيلة العدة فكرياً، والتي بلورت وصفاً حفرياً وتحليلياً دقيقاً للإشكاليات السياسية الكبرى التي عرفتها أنظمة وأنماط الحكم بالمغرب مند القرون الوسطى إلى زمننا هذا.
أين نجد النخب المحلية لقيادة مدننا؟
لقد وقفنا أكثر من مرة على هرولة كراكيز الأحزاب السياسية في عملية جماعية لصيد مرشحين مفترضين ساقوهم في حملة هوجاء لإعانتهم على تغطية كثرة الدوائر الانتخابية، وذلك كان ينمّ كل مرة عن أن الخدعة الانتخابية السيزيفية تتحول رويداً رويداً إلى أفضح مما كان عليه الحال، حين كان ممثلو السلطة المركزية من ولاة وعمال يتحكمون بقوة ومباشرة في تسيير جل شؤون الجماعات المحلية، تحت إشراف عمودي وبإيعاز من الداخلية، وبحكامة واضحة في الهيمنة.
ففي جعجعة تلك المعمعة الانتخابية أكثر دكاكين الأحزاب العريقة المعروف عنها إتقان عمليات نفخ خرفان سياسية مهجنة وإنزالها في آخر ساعة بالمظلات لتتسلم مفاتيح قيادة إدارة مدن الحواضر والجهات لا تتوفر بالقطع على مقومات المعادلة التطبيقية المطلوبة المستخلصة من برنامج فعلي له مثلاً صلة بخدمات القرب، أو برؤية بينة لما ستكون عليه طريقة تدبير حياة جيدة لكل فرد يعتز بإقامته في المدينة الفلانية التابعة للجهة المعنية.
ففي أفق هذا الوضع المعيب الذي وصلت إليه، والذي نوجد عليه، مع ما يصاحبه من الكذب السياسي الفج بالاسترسال في بث الوصفات السحرية الفارغة، نتشوف فعلاً وبمرارة أن نخرج مشهرين فانوساً سحرياً في قلب النهار، بحثاً عن هذه النخب المحلية المتمكنة والمتصفة بقدرات وكفاءات سياسية ذات مردودية ناجعة في الخوض في تعقيدات الشأن المحلي، في ظل هذه المهزلة المستمرة التي تغيب وتستنزف قدرات الرأسمال البشري المؤطر، والمحجوب عن كفاءات شعب هذا البلد الغارق في شبه عطالة.
نخب متنقلة من رفاه المال إلى زخم السياسة:
ثم إن المعيشة في المغرب مكلفة، مقارنة بمتوسط دخل فئات الطبقة الوسطى، وتظهر التقارير الجادة استمرار الزيادة في التكاليف بشكل تصاعدي، وهذا انطباع يشعر به كل من واكب متابعة حالات الأوضاع على مدد طويلة، وطبعاً هذا فتح المجال لإمكانية الامتداد الأخطبوطي للقطاع الاقتصادي غير المهيكل الذي صار متنفساً ونشاطاً اجتماعياً لكثير من الفئات الهشة، وتحت أنف الدولة، ورغماً عنها.
فحتى مجلس المنافسة، الذي يفترض أنه يراقب ويضمن منافسة نزيهة بين المستثمرين، وجدنا أنه لم يكن مسلحاً بالسلطات التي كان من المقرر أن تؤدي مهمته بشكل صحيح. والحصيلة والخوف كله هو أن يتم تنظيم بعض القطاعات الاقتصادية المسيرة في كارتلات، وهذا سيؤثر بطبيعة الحال على إنشاء مقاولات صغرى مستقبلاً، ويقتل المبادرات الاستثمارية في المهد، ويزيد من تكثيف حجم الاحتكار الأحادي وهيمنته، وطبعاً كل هذا سيصيب قلب الاقتصاد المغربي في مقتل، والمزعج أكثر أنه سيلقي بنخب مالية متحدة المصالح في مسبح السياسة، واختبار تحدي العوم في غمارها، مع كل المجازفات المنتظرة للوصول انتخابياً إلى دفة الحكم، وتسيير شؤون البلد بتدبير تقني محاسباتي، وبعقلية المال.
فلنشِر إلى أن القنوات التي تتيح مرور الإشارات بين السياسة والأعمال تذكرنا بوشوشات الصالونات المخملية في بداية العهد الجديد حول التدابير المقترحة للتفكير في دور رجال الأعمال ومساهمتهم في التخطيط السياسي مستقبلاً. فبعد مرور عقد ونصف من التقلبات والترددات تكشف لنا تشكيلة الحكومة المغربية الحالية أن هالة نجوم الأعمال ولهب نار الشهرة التي كانت تطوّقهم هي خاتمة هذا التأثيث الحثيث لوصولهم المنتظر، والذي كان متوقعاً.
الآن أثرياء الحكومة المعطوبة في تنزيل قراراتها بلغوا مرادهم من النجومية السياسية، وحصدوا الرأسمال الرمزي الكافي، فهل هؤلاء هم الذين ينبغي أن يسيروا مرافق الحياة اليومية لجزء من المغرب المترنح اقتصادياً؟ كيف لهم أن يشرحوا بالسبورة والطباشير للملايين التي ترزح تحت خط الفقر أن أحد الوزراء، هو بالمناسبة رفيق وزير المالية المعفى مؤخراً في نفس الحزب، باع حصصاً من رأسمال شركته بمليار دولار، وأن أغلب رفقائه من الوزراء يعيشون متنقلين بين كازابلانكا الدار البيضاء وكبريات العواصم الأوروبية.
ولهذا فالسياسيون التكنوقراط الذين تم صبغهم بألوان أحزاب تلم في صفوفها أثرياء كثراً، تفرض أزمة النخب ودورها الغائب أن يُطرح عليهم هذا السؤال، خاصة في بلد على طريق سكة النمو، واقتصاده هش: هل يمكن للمرء أن يلعب دوراً سياسياً وطنياً في بلده الأم في حين أن نصيبه من الثروة وتدبيرها جزء من المشكل؟ وهذا ما يتفق عليه عالمياً بأنه يؤدي إلى مأزق تضارب المصالح، وبالتالي إلى الانتكاس السياسي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.