كان علي الحجوري -وهو رجل ستيني- يتسوّل مؤخراً في إحدى الأمسيات، في ميدان السبعين الواقع في الجزء الغربي من العاصمة اليمنية صنعاء. كان حجوري الذي تشققت شفتاه عطشاً وفقراً، يمر بمحاذاة كل سيارة تتوقف بجانب حديقة عامة ويرفع يده اليمنى طالباً المساعدة. وبينما تغرب الشمس فوق ذاك البلد الذي مزقته الحرب، كان حجوري يعود إلى غرفة مستأجرة، حيث يعيش مع عائلته، التي كانت تتضور جوعاً.
فرّ حجوري قبل نحو ثلاث سنواتٍ، بعد قصفٍ مكثف من قبل المملكة العربية السعودية، من بيته في محافظة المحويت الواقعة على بعد 75 ميلاً شمال غرب صنعاء. كان يعمل مزارعاً وحصل على بعض الوظائف في مجال البناء مع ابنه لزيادة دخلهم.
وكان أيضاً من ضمن المستفيدين من برنامج تديره الحكومة، كان يقدم حوالي 32 دولاراً كل ثلاثة أشهر للفقراء والعاطلين عن العمل والأشخاص ذوي الإعاقات. قوضت الحرب أيضاً مصدر الدعم ذاك.
لم تتمكن الحملة العسكرية المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات -المصحوبةً بحصارٍ بحريّ وجويّ- من قبل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والمدعومة من الولايات المتحدة، من القضاء حتى الآن على المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، لكنها جعلت الشعب اليمني يعاني من الفقر المدقع وخلفت أكبر أزمة إنسانية في العالم.
يولي العالم انتباهاً عابراً فقط إلى بعض الفظائع، مثل مذبحة 9 أغسطس/آب التي راح ضحيتها 44 تلميذاً كانوا في رحلة مدرسية في محافظة صعدة شمال اليمن، وذلك جراء غارة جوية سعودية، لكن، وبينما العالم في غفلة عن اليمن، تستمر الحرب في تدمير أجساد وأرواح الشعب اليمني المحاصر.
تعتمد نحو 9 ملايين عائلة يمنية في معيشتها على رواتب أفراد العائلة التي يستلمونها من وظائفهم في القطاع العام. وكان البنك المركزي اليمني هو العنصر الأساسي في عملية توزيع رواتبهم، لكن السعوديون نقلوه في سبتمبر/أيلول عام 2016، من صنعاء إلى مدينة عدن الساحلية في الجنوب، حيث تتمركز الحكومة اليمنية المتحالفة مع السعودية.
حذرت المنظمات الإنسانية في ذلك الوقت من هذه الخطوة، لكن الحكومة التي يرأسها عبدربه منصور هادي وعدت بالحفاظ على سياسة البنك المتمثلة في دفع رواتب الموظفين، بغض النظر عمّا إذا كانت أماكن تواجدهم في مناطق البلاد التي يسيطر عليها الحوثيون أو مناطق التحالف الذي تقوده السعودية.
لا يزال يتعين على الحكومة الإيفاء بهذا الوعد، مع بعض الاستثناءات النادرة التي تم الإيفاء بها. إذ تُرك أكثر من مليون موظف في القطاع العام -والذين يُعيلون حوالي 9 ملايين أسرة- دون مرتبات واضطروا للعيش على الإعانات والصدقات.
طوال الأشهر الثلاثة الماضية أخذ اليأس يتزايد منذ أن بدأ التحالف الذي تقوده السعودية هجومه للاستيلاء على مدينة الحديدة الساحلية غرب اليمن، والتي يمر عبرها معظم واردات اليمن وتدخل المساعدات الإنسانية القادمة إلى البلاد. جديرٌ بالذكر أن نصف سكان الحديدة البالغ عددهم 600 ألف شخص قد فرُّوا منها.
فجَّر التحالف إحدى محطات المياه في الحديدة، ودُمرت أيضاً خدمات الصرف الصحي. كما أصاب القصف المدفعي للقوات المدعومة من قبل التحالف الذي تقوده السعودية المنازل، وأحد أسواق السمك، ومستشفى الحديدة الرئيسي.
وعلى الرغم من وجود هدنة رسمية مبرمة من أجل السماح للأمم المتحدة بالتفاوض على اتفاق سلام، فإن القتال لا يزال مستمراً. تزداد آثار الحرب وضوحاً في شوارع صنعاء، حيث زادت أسعار الوقود والسلع الغذائية مرتين أو ثلاث مرات، وباتت بعيدة عن متناول معظم السكان واللاجئين. إذ إن كيساً وزنه 50 كيلوغراماً من الدقيق، والذي كان سعره 4500 ريال يمني قبل الحرب، أصبح يُباع الآن مقابل 12 ألف ريال يمني.
تستمر الأسعار في الارتفاع مع تواصل الحرب، بينما تستمر قيمة الريال اليمني في الانخفاض مقابل الدولار. وتغيرت أسعار الصرف من 250 ريالاً يمنياً للدولارٍ الواحد وذلك قبل الحرب، إلى 550 ريالاً يمنياً مقابل الدولار الآن.
أجبر انعدام فرص العمل عدداً كبيراً من الناس على التسول في الشوارع. في دوار الرويشان، وهو واحد من أكثر الطرق ازدحاماً في وسط صنعاء، يضطر الناس إلى التسول وهم يتحركون بخفة من سيارة إلى أخرى أثناء الاختناقات المرورية، وذلك طلباً للمساعدة.
مؤخراً بعد ظهيرة أحد الأيام، شاهدتُ رجلاً يحاول جعل المتسولين يقفون في صفٍّ منتظم وذلك حتى يحظى الجميع بفرصة. وبينما كان يحاول إرساء النظام، قفز صبي عمره حوالي 8 سنوات على غطاء سيارة صديقي، حاملاً زجاجة من منظف أصفر وقطعة قماش، وشرع في غسل الزجاج الأمامي. أعطاه صديقي بعض النقود. ببساطة، كان الولد يريد أن يأكل، كان يريد أن يشتري شطيرة.
يشكل كبار السن من الرجال والنساء غالبية المتسولين الجدد في صنعاء. لكنهم مثل حجوري، المزارع النازح، لا يستطيعون منافسة الفتيان والفتيات النشيطين الذين يتسولون في الشوارع، أو يحومون حول المطاعم بحثاً عن بقايا الطعام. غالباً ما ترى النساء الكبيرات في السن المرتديات العباءات السوداء وهنّ واقفات خارج المطاعم في صفٍ. يقفنّ في صمتٍ ويقبلنّ أي طعامٍ أو هدايا تُقدم لهم.
مؤخراً أيضاً في بعد ظهيرة أحد الأيام، كنت أسير في شارع صفر بمدينة حدة، وهو حي راقٍ، حينما أوقفتني امرأة تمشي مع ابنتها الصغيرة. اعتقدتُ أنها ستسأل عن الطريق والاتجاهات، لكنها قالت: "زوجي على قيد الحياة لكن لم يُدفع له راتبه. نفد كل شيءٍ لدينا". لم يعد لديها أي شيء لإطعام أسرتها وسعت في طلب المساعدة، مضيفةً: "لم أطلب المساعدة من قبل". لم يعرف زوجها وعائلتها أنها تتسول. وقالت: "لا تتفاجأ! سترى الأمة بأسرها في الشارع عما قريب".
في يوم آخر كنت أسير خارج مطعمٍ شهيرٍ في المدينة، عندما أوقفني رجل في الأربعينات من عمره. وقال: "أنا لا أطلب منك المال". أخرج بطاقة هوية تابعة لوزارة الدفاع، كتب فيها أنه عريف. كان من تعز، وهي مدينة تبعد مسافة 172 ميلاً عن جنوب صنعاء، حيث كان يمتلك منزلاً. لكنه فرّ مع عائلته إلى صنعاء قبل سنتين، وذلك بعد أن قُتل أخوه في قصفٍ جويّ. عرض المسؤولون في وزارة الدفاع التي يسيطر عليها الحوثيون دفع الراتب الشهري للعريف، فقط إذا كان سينضم إلى القتال، لكنه رفض.
لم يتمكن الرجل من العثور على عمل في صنعاء. يستذكر قائلاً: "كان أطفالي يبكون من الجوع، هذا أمرٌ مؤلم ومهين بما يفوق كل الحدود". كذب على عائلته قائلاً لهم إنه عثر على عمل في مطعم، ولا يعرف أحد أنه يتسول في أنحاء المدينة. قال لي العريف: "اشتر بعض الخبز لأطفالي، إذا كان بإمكانك ذلك"، بينما تنهمر الدموع من عينيه.
هذا الرجل واحد من بين 22 مليون يمني يحتاجون إلى المساعدات، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة؛ وهو رقم مذهل يزيد بنسبة 6 ملايين شخص عن تقديرات الأمم المتحدة لعام 2015 البالغة 16 مليوناً.
يتبادل التحالف الذي تقوده السعودية والمتمردون الحوثيون الاتهامات في هذا الصدد. تتنقل أدوار السيطرة وموازين القوى والمؤامرات كلٌّ حسب وتيرته الخاصة؛ بينما يموت الناس جراء الجوع والأمراض. يقول حجوري، المزارع الذي تحول إلى متسول: "لقد دمرنا السعوديون ودمروا البلاد".
– هذه المدونة مترجمة عن صحيفة The New York Times الأميركية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.