منذ سنوات والأسئلة حولي في معظمها تدور في رحى المقارنة، بينما تصير الإجابات إلى طحين منثور بالكاد تجبله القناعة رغيف خبز يشبع من أراد لنفسه إشباعاً!
أن ترى بعينيك وتسمع بأذنك فهذا بذخ عظيم وخير لا يناله إلا قلة، فيما البقية تقتات على فتات المعرفة المتناثر بين صفحات الكتب وفي مخيلات الصور كمنحة مبتورة التكاليف تستمد منها ما يتيح لك فرصة بناء وجهة نظر سليمة، أو على أقل تقدير مقنعة لعقلك وقلبك معاً. وفي الواقع هناك الكثيرون ممن لا تهزهم وجهة نظر يتيمةٍ ملقاةٍ في زقاق مهمل ولا حتى تغريهم أخرى تنعم في زهو الشهرة لمجرد أن أحداً ما يتابعه بضعة آلاف في موقع اجتماعي يتبناها ويدافع عنها ويفسح لها المجال لتختال مستعرضة نفسها على حائط إلكتروني.
تعيش وجهات النظر هذه في معظمها في وسط شديد الحساسية، متشرنقة بخيوط دقيقة لا تشف عن محتواها… تماماً كالوهم الذي لا يتحقق إلا بكسر قيود الفكرة بملامستها وبحثها وتحقيقها.
السفر هو ذاك البذخ العظيم والمهمة الممتعة التي تكشف النقاب عن معظم ما يدور حولنا من أحوال الشعوب وماهيتها وطرائق عيشها وثقافتها. أن تمشي مئة متر لتقترب من الحدث أكثر كفيلٌ بأن يجعلك جزءاً من الحقيقة ويزيح الشك عن جانب ما خبرته بحواسك التي في أغلب الظن لن تخطئك التقدير إلا إن كنت مُتسرع الرؤية، متعصب الإيمان، تطلق الأحكام جزافاً.
جمع الحقائق وملامسة الأفكار تتطلب عقلاً نقياً غير ملوثٍ بالعصبيات الطائشة والصور النمطية الساذجة، نحتاج لأن نكون شديدي التقبل للاختلاف، وأن نعي وعياً تاماً أن للحقيقة وجوهاً مختلفة وإحصاء وجوهها كلها هو سمو في العلم لا يناله إلا قلة!
لست كذلك؟ والصراع الفكري والحضاري يمزق أفكارك؟ لا بأس فالسفر أيضا كفيل بتهذيب النفس وترويض بعض أفكارها المستوحشة، وتصحيح المصطلحات الخاطئة التي تعيق فهم جملة الواقع، ناهيك عن لم شتات الصور المبعثرة وإعادة ترتيب الأولويات إن لم تخلق لك التجارب أولويات جديدة لم تكن تعيها من قبل.
الرازي كان مسافراً مشّاء لم يترك لمكان عليه عتباً، وابن بطوطة أتحفنا بأجمل الكتب خلاصة 29 عاماً من الترحال، والحسن الوزان نقل لنا إفريقيا إلى معقل ديارنا، وأما الخليفة العباسي الواثق بالله فقد أرسل سلام الترجمان في رحلة البحث الشهيرة إلى القوقاز.
تلا هذه الرحلات الكثيرة والتي لا تحصى ما يسمى بأدب الرحلات في أدب من أجمل الأنواع، والذي كان في يوم ما بساط السندباد الطائر إلى بلاد ما وراء التوقعات والتخيلات، يحمل القارئ برحلة خيالية قد تفوق بجمالها الرحلة الحقيقية حينما يبدع العقل في اجتلاب الصور ورسم الأماكن وكأنه الرحالة ذات نفسه لا يختلف عنه إلا بمكانه الحسي. حتى إن من الأدباء من لم يخرجوا من ديارهم وكتبوا في هذا النوع من الأدب كنتاج لمخيلاتهم الخصبة التي سافروا بها عن طريق شخصيات خيالية نقلت لنا تجارب من بلاد تخيلناها معهم، وبقيت لنا ولهم أسطورة لم نتأكد من حقيقة مشاهدها وبرغم ذلك تنفسنا معها لذة هواء الصباح وتذوقنا الحضارة في أطباقهم، ولمسنا كل تفصيل في حياتهم، وكأننا جزء من هذه الأساطير والقصص والملاحم الإغريقية والبابلية والعربية في مجملها.
أو نبحث عن الحقيقة فيها؟ ليس بعد… طالما أن الحواس لم تتفق بعد والصورة الكاملة لم تتحقق ويكفينا منها لذة الخيال الذي تبتدعه النفس لتكظم بعضاً من رغبة الحواس الشجية نحو المعرفة المطلقة والتي كما أسلفنا لا تتحقق سوى بإجماع الحواس في لحظة يقظة.
ولكن… سواء سافروا أم لا فهؤلاء من حملوا لنا تذاكر السفر المجانية إلى العالم في وقت كان السفر فيه صعب المنال وباهظ التكاليف – على الأقل بالنسبة لعامة الشعب – فعندما نشر الكاتب المبدع أنيس منصور كتابه حول العالم في 200 يوم عام 1963، حقق أرقاماً قياسية في المبيعات ولفت النظر محلياً وعالمياً، ناهيك عن أسلوبه المتفرد الذي يشد أي قارئ. لقد كان بالنسبة لي يوماً من الأيام رحلة حقيقة سافرتها بأقل من يومين وانتهت بطيّ آخر ورقات الكتاب.
أظن أن اليوم أسهل من البارحة في اصطياد الحقيقة، بينما تعقب الأفكار لتفنيدها أو تأكيدها أصبح متاحاً أكثر في عصر امتلأت فيها المنصات الاجتماعية بكافة أنواع الوسائط التي يبثها رحالة متخصصون يثيرون لدينا شهوة السفر من جديد، وأحيانا تأتي تقاريرهم لتضمد جراح أفكار ومعلومات كثيرة نزفت مطولاً لوضعها في قالب نمطي يحرمها حق التعبير عن مدى صحتها أو حتى عدمه!
ومجدداً… هل ننظر هذه التقارير بعين الصواب فقط، ونطلق العنان لأفكارنا تتوالد في وسط خصب يفيض بالمعلومات والصور عن كل رقعة في هذا العالم؟ أرى الزوايا تختلف حينما ننظر للأشياء… فما أراه جميلاً تراه أنت قبيحاً وما يعجبني لا يعجبك وما يرضيني لا يرضيك وحتماً ليس الجميع في نفس مستوى الحياد والحل يتمثل بالبحث مرة واثنتين وثلاث وحتى عشر فبالنهاية وعلى الأقل لن تطلق حكماً زائفاً ولن تتبنى فكراً ملوثاً ولن تقع في براثن الأكاذيب التي تملأ العالم فتزيده قسوة وظلماً.
حطم الإطار… فهناك فرق بين أن تصنع أنت الصورة وتكون جزءاً منها وبين أن تبقى مُتلقياً سلبياً تأخذ دوراً ثانوياً على مسرح لا تنتمي له أصلاً!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.