عن زهرة قُطفت قبل أوانها أتحدث، عن شمس غربت قبل سطوعها، عن صوت تلاشى قبل رنينه، عن أطفال لم يحفظوا صورة أبيهم بعد، عن أطفال لم يعتادوا على لفظ "بابا"، عن ذلك الشهيد أتحدث؛ بأي لغة أرثيك يا أخي؟
كنت دائماً أنظر في وجوه الجرحى وأخاف أن أعثر على أحد من أفراد عائلتي بينهم، كنت أتوقع الأسوأ؛ لأن الواقع المرير فرض عليَّ ذلك، فعندما جاء دورك يا أخي لم أتوقع أن تتماسك أعصابي؛ إلا أن الله صبّرني على ذلك.
في ليلة حالكة عتمة إلا من أضواء القصف، كنت أعمل ممرضاً وكنت في غرفة العمليات، والغرفة مكتظة بالمصابين والشهداء على كافة الأسرّة، وعلى الأرض وعلى كل جانب، لم يكن أمراً غريباً بالنسبة لي؛ لأننا في كل يوم نتعرض لمجزرة، دقائق معدودة وأرى زميلي وجهه محمراً ويبكي، فسألت بسرعة ما به؟ فقالوا لي بأنه كان يُنعش أخاه ولم يعرف بأنه أخوه حتى استشهد… لوهلة توقف عقلي، ومن كثرة الجرحى لم يكن لديَّ وقت لأواسيه .
ثوانٍ أخرى ويسقط صاروخ آخر ومزيد من الجرحى، فجأة سقطت علبة الجراحة من يدي لم أعرف لماذا توترت قليلاً..
لحظات ونيّف ويخبرني زميلي:
"محمود…. تعالى شوف أخوك هيثم"، فجأة انقبض قلبي وتلعثم لساني وذهبت مسرعاً إلى الإسعاف، شعرت بأن الطريق طويل ولا يبعد عني سوى أمتار، باتت أحاسيسي تسبق خطواتي، وأنا أركض وأحدق النظر في الجميع، أرض الإسعاف ممتلئة أكثر من 200 جريح، وما زلت أبحث وأنا فاقد الوعي فذهبت إلى القسم الآخر.
رأيت أخي وعشرات الجرحى والشهداء على الأرض، دماء على الجميع، أضواء خافتة، صرخات لا يسمعها إلا الله، أنين وعويل ونحيب، ألم، خوف، قلق، كان كل شيء لا يتعلق بالطمأنينة موجوداً.
رأيت أخي شهيداً، وكان في يدي أمبولات الإنعاش التي لطالما أنعشت بها أناساً أبرياء، سقطت أرضاً أمامه بدأت بتلمس وجهه، رأيت دماً قد خرج من أذنيه وفمه، مزقت ثيابه ورأيت شظية قد دخلت إلى قلبه الطاهر، أعطيته جرعات "أدرنالين"، مسدت القلب، وضعت السماعة على صدره الرقيق لم أسمع شيئاً….. هنا لم أعد أتمالك أنفاسي، بات صوت الصرخات بداخلي ينفجر، وبدأت دموعي تنهمر، وأعصابي تتلف، سامحني يا أخي، خانتني أمبولات الإنعاش.
أعلم أن ذلك مكتوب له، وأنه قدره.
لحظات وأتت أمي مهرولة إلى المشفى، لم يخبرها أحد قط إنما قلبها الذي أخبرها، لم أستطِع أن أنظر إلى وجهها، فصرخاتها كوت قلبي، وكتمت على أنفاسي.
ظلت الصرخات مكتومة داخل كياننا المهترئ من الآلام، باتت الدموع سيدة المكان، أصبحت الشهقات نديمة الأنفاس، صار الحزن قائداً ونحن جنوده، وهكذا في كل يوم كانت تكبر المأساة فأصبحنا نتقاسمها فيما بيننا.
خانتني كل أمبولات الإنعاش يا أخي، فصدمات الكهرباء لم تجدِ نفعاً ولا أمبولات الأدرينالين التي تجعل القلب يعمل، فقدرك وإصابتك الواسعة جعلتك ترتقي لمرتبة الشهيد.
اليوم تبكيك أمك وزوجتك وعيوننا، اليوم تبكيك يد طفلك الذي لا تعرفه إلا في عمر 25 يوماً.
اليوم تبكيك الأيام والتاريخ وكل شيء من أثرك يبكيك.
أكثر ما يصعقني ويؤلمني بأنني بعد أن نفيت من وطني لم أعد أستطيع أن أزور لحدك، نعم هجرت من غوطة دمشق يا أخي.
تقول لي أمي إنها تستحضر قصة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عندما فقد ابنه إبراهيم، قال صلى الله عليه وسلم: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"، وتقول أمي ونحن على فراقك لمحزونون يا ولدي، قالت أمي إنها تتصبر بقصة الرسول الكريم، فسيد الخلق أصابه ما أصابنا فصبر.
آه يا أمي… كم أنا مشتاق لك ولأخي ولبلدي وهواء وطني.
تؤلمني الذاكرة إيلاماً مبهماً، بدأت أتوجس من الماضي والذكريات، عشقت النسيان وأدركت نعمته، ولكني لا أحبذه؛ لأنني لا أريد أن أنسى أيامي مع أخي وسندي وقرة عيني، لا أريد أن أنسى من علمني قيادة الدراجة والسيارة ومن علمني كيف أدافع عن حقي، شكراً لك يا أخي، رحلت وتركت ملاحظتك محفورة في تلافيف ذهني.
نعم، ثورة يتيمة كأولاد أخي، اليوم يتعلم الأولاد أن الله غالب على أمره، يتعلمون مبادئ الحب والسلام، يتعلمون مبادئ العدالة والمساواة.
وهم أيضاً تعلموا من أعدائنا أن القتل بالكيماوي لا يجوز، ولكن القتل بالطيران والبراميل والصواريخ يجوز، ولم ولن وكل أدوات النفي لم تنسِهم مَن قَتَل أباهم.
وختاماً.. "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.