أول مرة ألتقي فيها بسعد لمجرد كانت في مصر، وبالتحديد بالإسكندرية، التقطت لي هذه الصورة، كنت هنا أقدم محاضرة أمام نحو 60 مشاركاً من الدول العربية في منتدى الإسكندرية للإعلام، أبدو في الصورة ضاحكة، مبتسمة، لكن لا أحد يعرف وأنا أقدم المحاضرة أني قبلها بساعتين كنت بغرفتي في الفندق، استيقظت بمزاج سيئ، اعتقدت أنه بسبب طول المسافة وعبء السفر، حتى فوجئت بنفسي وقد هجمت عليّ إحدى نوبات اضطراب القلق (حسب ما سيشخِّصه الطبيب حين اخترت زيارته بنفسي).
وقتها لم أكن أعرف ما يصيبني، لم يكن ينقصني شيء، صحتي جيدة، وضعي المهني جيد، عائلتي تحبني، ولديّ أصدقاء يحبون فيَّ عيوبي قبل محاسني، أسافر، وأخطط لأحلامي، وأتمرد على كل من يحاول المساس بها، لم يكن هناك سبب يستدعي أن أسقط عرضة "اضطراب
القلق"، لكن ما أصابني يومها في الإسكندرية كان مخيفاً، أخافني لدرجة أني لأول مرة أفكر في ضرورة زيارة طبيب نفسي.
كانت عائلتي وأصدقائي يحذرونني من القيام بالأمر، وأن الطبيب لن يفعل سوى تقديم أدوية ستجعلني عليها مدمنة، لذلك حين تحدثت إلى الطبيب أول ما أخبرته به أنه لن آخذ أي دواء يصفه لي، وأني أريد أن أفهم ما يحدث، ولماذا بينما كنت أستعد لتقديم المحاضرة وجدت نفسي فجأة تحت تأثير نوبة شرسة تمنيت معها أن أموت من شدة شراستها.
بعد عدة جلسات شرح لي الطبيب أنها نوبة لأعراض اضطراب القلق، قال لي إنها تصيب الأشخاص "المبدعين"، وإنها وسيلة يختلقها العقل الباطني لتفريغ كمّ الضغوط التي مررت منها منذ وُلدت، وإن عليّ أن أجد شيئاً أفرغ فيه هذه الشحنة، بعد أسبوع من هذا الحادث نُقلت إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية.
الغريب في الأمر أن نوبات القلق خفت مع إجرائي العملية، لكن نصف الشفاء سيأتي حينما بدأت أكتب "مشاهدات عابرة"، كنت أكتب منذ 10 سنوات، لكني لم أكن آخذ الأمر بجدية، وحين أكتب، أكتب بحذر شديد، خوفاً من أخي، من عائلتي، وكيف سينظرون إلى ما أكتب، لكني حين بدأت "مشاهداتي العابرة" على جريدة الأخبار تحت إشراف "الجنرال" رشيد نيني، بدأت أنضبط في الكتابة، ومع الوقت بدأت أنتبه إن نوبات القلق بدأت تخف، لم تختف كلية لكنها بدأت تخف، وبدأت أشعر بأن عليّ أن أقاوم هذه النوبات حتى أستطيع الالتزام بمواعيد الكتابة مع الجريدة، ومع القراء، ولأني اخترت أن تكون مشاهداتي العابرة مليئة بالتفاؤل، وجدت نفسي أحاول محاربة هذه النوبات حتى لا أنقل للقراء نظرة سوداوية، وحين كنت أستسلم لها، كنت أتوقف عن الكتابة، بل كنت أختفي، أقفل الهاتف، ولا أتحدث إلى أحد، وأواجه النوبة وحدي، في الحقيقة لم أكن وحدي وإلا ما كنت أستطيع هزمها كلما حضرت بوجهها القبيح ذاك، فقد طورت في عقلي مفهوماً أذكر به نفسي كلما حضرت، أغمض عيني وأشعر بأن الله متواجد بذاته، وأنه إن تركني الكل، حتى مَنْ اتصلت به ذات ليل من ديسمبر الماضي كي لا أواجه النوبة وحدي، فإن الله لا يتركني، وحين عدت للكتابة وجدت نفسي لا أتوقف عنها حتى وأنا في وضع نفسي سيئ.
وجدت نفسي أحافظ على نفس التفاؤل حتى وأنا في حاجة لمن يمنحني هذا التفاؤل، استطعت فعل هذا بسبب أمر واحد فقط وهو هذه الصورة، هذه الصورة تذكرني بأني مررت بأشرس نوبة قلق، كادت تفقدني حياتي، لكني استذكرت الله فذكرني، ورافقني في فترة العلاج، وخفت النوبات بشكل كبير، بل بدأت أساعد أصدقائي وأقاربي الذين يعانون نفس الأعراض، وأكثر شيء كنت أوصيهم به أن يتحدثوا عما يصيبهم، وألا يهتموا لما سيقوله الناس عنهم، وأننا شعب لا يعتني بجسده فكيف سيعتني بصحة عقله ونفسه، أوصيتهم بأن يتحدثوا بما يشعرون به، أن يكشفوا مخاوفهم، ويشاركوا مشاعرهم، وأن يبحثوا عن شيء يخرجون فيه شحناتهم العاطفية المكبوتة، وأفكارهم المزعجة.
سعد لمجرد، فنان نعم، لكن فنه بدل أن يكون ملاذه للتحرر من أمراضه النفسية، بات وبالاً عليه، سعد مريض، ليس بإدمان المخدرات، ولا بالجنس، هذه مجرد أعراض لمرض آخر سرّه موجود في شخصية والدته، وشخصية والده.
بيننا مرضى كُثر قد تكونون أنتم، أو أهلكم، أو قد يكون رجلاً تحبينه ويسيء معاملتك معتقداً أنه لا يحبك، في حين أنه لا يعرف أنه مريض بمرض النفس الذي نهمله، انتبهوا لصحتكم النفسية، فأخبار العنف التي نسمعها كل يوم ليست سوى نتيجة لإهمالكم لصوت يصرخ داخلكم تريدون إخراسه بدعوى "العيب"، و"لحشوما"، و"الناس"، و"مالك شنو ناقصك؟". اللهم إني قد بلغت!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.