لا تحلمْ في صِغرك بأن تصير داعيةً إسلامياً في يوم من الأيام، احلم بأن تكون طياراً، طبيباً، رائد فضاء٬ وإياك أن تعتقد أن الداعية مهنةُ العظمة والتفاخُر، فهي عبء ثقيل على ظهر صاحبها، إما أن تغمسه في نار جهنم وإما أن تُحلّق به في الجنان، ولا تخدعنَّك ثرواتُ وسياراتُ وعماراتُ فقهاءِ هذا الزمان، فهم أبعد ما يكونون عن حمل شرف ومكانة اللقب.
لا أحد يولد عالمَ دين، أو داعية من دعاته، ولا تتبلورُ هذه الصفة في الصغير مِثلما تبدو عليه سمات الميول إلى الهندسة والحساب والرسم والآداب منذ نعومة أظافره، وانصرافُ الأطفال في سنوات عُمرهم الأولى إلى حفظ القرآن وتعلّم مبادئ التجويد كما يُصرّ عليهم آباؤهم وأمهاتهم، ليس بالضرورة أن يصنع ذلك منهم علماء دين أو دعاة مرموقين.
ولعلّ ما يظهر على دعاة اليوم من ثراءٍ جليٍّ ومكانةٍ اجتماعية سامية وشهرةٍ ذائعة الصيت تجعل منهم نجوماً متلألئين في الساحة شأنهم شأن نجوم كرة القدم، هو ما يَجذبُ أولئك الذين بدأوا للتوّ في رسم معالم طريقهم إلى النجاح، أوَليسَ النجاح أن تحصل على مكانةٍ متميزة في المجتمع، وعلى استقرارٍ ماليٍّ مريح، وعلى شهرة كبيرة بين أقرانك ومعارفك؟ فإنْ لم تكن هذه الأمور من تداعيات النجاح، فما هو النجاحُ إذاً؟!
ومن ثم، من حق النشء الصاعد أن يضعَ صَوْب عينيه هذه الطريق المعبّدةَ نحو الشهرة والثّراء فلا يرَى غيرها، ويتفادى أيّ سبيل آخر قد يجده عامراً بالمتاعب والإخفاقات، فكيف تتحوّل إذاً إلى داعية إسلامي بضوابط هذا الزمان؟
عليك أوّلاً أن تختارَ لنفسكَ أسلوباً محدّداً خاصّاً بك، بمعنى أن تختارَ الشريحة المستهدفة؛ هل هي من فئة الشباب (صُنّاع الحياة)؛ ومن ثم عليك أن تبدو مفتول العضلات، أنيق البذلة، حليق الوجه، تعكسُ صورةً من الحيوية والنشاط؟ أو من فئة البالغين الراشدين فيجبُ عليك في هذه الحالة أن تَظهرَ أكثرَ حزماً وجديّة، وأن تعكس قسماتُ وجهك مخزوناً من الثقة والانضباط؟
أو من فئة الكهلة الطاعنين في السن (وجوه الموت)؛ ومن ثم قد لا تُعير للمظهر الخارجي اهتماماً بقدر ما تركّز على آخر فتراتِ العمر أو مرحلةِ ما قبلَ الموت، فتستغلُّ هذه الظرفية بذكاءٍ أحسنَ استغلال؟
فداعية هذا الزمان ليس مُوجّهاً لجميع البشر، كما كان الحال في السابق، لا يُفرّق في كَلامه بين صغيرٍ وكبيرٍ، رجلٍ وامرأة، وإنما يختصُّ كل داعية بفئة معينة؛ حتى يأسِرَ أكبر عدد من المتابعين ويجذبهم لصفّه، فيُركّز في عمله أحسن تركيز، ويختار مواضعه بعناية بالغة ليدخل المنافسة بقوة ويحقق أعلى نسبة نجاح، ولا بدّ أن يحظى في كل تنقلاته وزياراته باستقبالٍ رسميٍّ ودعوةٍ من أعلى هيئة في البلاد، بشكل يليق باسمه وكنوز معارفه وعلومه، فلا يستقرُّ به المقام إلا في فنادق فاخرة من صنف 5 نجوم، وصالات استقبال خاصة بجودة عالية؛ حتى يكون مهيّأً نفسيّاً ومادياً لهداية الناس ونقل علمه الفذّ إلى طلابه.
ثم إن الداعية الإسلامي لا يهمه أن يَبُثّوا في أثناء فاصل الاستراحة قبلَ العودة إلى برنامجه التلفزيوني وصلات إشهار لمشروب البيبسي الصهيوني مثلاً، أو عروضاً مُغرية في طُرق تعلّم الرّقص الشرقي، أو مساحيقَ تجميل منبوذة مع موسيقى مائعة مُحرّمة، وما إلى ذلك، الأهم أن يقومَ بمهمّته على أحسن ما يُرام ويمتثِل لكلّ ما اتُّفقَ عليه في العقد المُبرم بينه وبين القناة الفضائية الراعية، حتى يأخذ مستحقاته المالية على أكملِ وجه ويخرج فرِحاً مبتهجاً خاشعاً قلبُهُ بالإيمان والتقوى.
ثم يأتي عامل التجربة وهو عامل مهم للغاية، فالداعية الذي سبق له العمل مع أكثر من قناة لا يمكن أن يتقاضى من الأموال ما يتقاضاهُ زميله الذي بدأ للتوّ في عرض أولى تجاربهِ في الميدان، ثم اختيار الطريقة المثالية التي تؤثر ما أمكن من التأثير على المشاهدين والمتابعين إلى درجة البكاء، فكلما أبكيتَ أكثر ارتفعتْ قيمة العائدات المالية وزاد عدد متابعي الصفحة، وكلّما قلَّ البواكي كان تغيير الأسلوب ضرورة مُلحّة.
وعليك أن تتّبع طرقاً خاصة في تعاملك مع متابعيك، فمثلاً تواجههم مُحْرماً وظهرك إلى الكعبة المشرّفة تدعو الله أن يُزوّج أعضاءَ الصفحة بعضهم ببعض، ويُلاقي الحبيبَ حبيبته، ويجمعَ شمل العاشقة بعشيقها، أو مُتجوّلاً في أدغال إفريقيا القاحلة تقدم بعض الحلوى إلى أطفالٍ يفترشون الأرض من شدّة الجوع والعطش وأنتَ تأخذ سيلفي مؤثراً بجانبهم.. إلخ، ثم تمسحُ دموعك وتُنشّف نظارتك وأنت متعبٌ من شدّة التصنّع والنفاق، وتعيدُ مشاهدةَ الفيديو لتُنقحه وتُقيّمهُ قبل عرضه على الجمهور.
هذا هو داعية القرن، مهنة صعبة المراس، فكأنّك تدير مشروعاً مربحاً، وعليك أن تنتبهَ لكل صغيرة وكبيرة فيه ولا تقع أبداً في الأخطاء، مهنةٌ تتطلّب شخصيةً تتلوّن وتتأقلم بسرعة حسب المستجدات، تقول الكلمة المناسبة في المكان والزمان المناسبين، تستطيعُ تنويم المستمعين تنويماً مغناطيسياً يُدخلهم جميعاً في عالمٍ روحاني فريد يدفعون من أجله كلّ ما يملكون.
ولا بدّ للداعية طبعاً أن يُتقن أدوات التكنولوجيا الحديثة، وأن يُنشئ موقعه الرقمي أو صفحته الخاصة على شبكات التواصل الاجتماعي ويواظب على تدبيرها وتجديدها أو يُشغّل من يساعده على ذلك، فيُسيّرُ إدارته ويرتّبُ أموره ومواعيده ويتواصلُ مع زبنائه، ويُسوّق أقراصه ومقاطِعه المصوّرة، فهو يُدير مشروعاً ضخماً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالداعية الذي لا يملك في حسابه متابعين افتراضيين كُثُراً ولا إدارةً مُحْكَمة التسيير، داعية فاشلٌ شقيٌّ لا خيرَ يُرجى منه!
الحقيقة أن الدعوة إلى الله لها رجالها الذين أضاء الله فيهم نعمةَ هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الحق، دون مقابل ولا مصلحة، قال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ". وطريق الدعوة إلى الله طريق عظيمة الشأن٬ شريفة القدر٬ تتطلب جبالاً من الصبر والالتزام بالصدق والأمانة والتواضع وموافقة القول العمل، وإبداء النصح السديد والمواقف الثابتة الرزينة التي لا تَزيغُ عن طريق الحقّ والهداية، لا يُراد من وراءها سوى وجه الله ورضاه، وما سوى ذلك من نوايا خبيثة وأغراض دنيئة مما كَثُرتْ واستطار شرُّها في زماننا هذا، لا يَحقّ لها أن تُشوّه صفاء هذا العمل العظيم وتُلوّث طهارته، فيَنطبقُ على أصحابها قول الله تعالى: "اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".. صدق الله العظيم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.