لطالما وُصم مرضى الاكتئاب بوصمة عار وسط المجتمعات كلها من أولها إلى آخرها، فلا يُفرِّق أي مجتمع بين مريض اكتئاب أوروبي وإفريقي أو لاتيني.. الجميع متهم دائماً بالخنوع والتراخي والاستسلام للحزن، ولكن لا يُفرِّق أبداً الناس بين الاكتئاب والاضطرابات المزاجية أو بعض الأحزان العابرة نتيجة ضغوط الحياة اليومية..
فسرعان ما يتم وصف مريض الاكتئاب بالكآبة، وإلصاق نعت "الكئيب" به مباشرة..
ورغم ذلك، فإن المحيطين بالمكتئب يعجزون دوماً عن سبر أغوار مريض الاكتئاب، فلا أحد يستطيع لمس شعوره بالعجز أو الضعف، أو رؤية غيمة الكآبة التي تغشوه وتسيطر عليه.
فيقول تيموثي روجرز عام 1691، وهو كاتب ومريض اكتئاب أيضاً، في وصف الكآبة إنها "أسوأ أنواع العلل، وإن المشاعر التي تصاحبها مريعة وعصيَّة علی الوصف".
أما روبرت برتون، فيقول في كتابه "تشريح الكآبة"، إن الاكتئاب مرض تتحكم فيه غدد الإنسان وإفرازاتها، وبحُكم أنه مريض اكتئاب أيضاً فإنه وجد وصفاً دقيقاً للكآبة بأنها "نوع من الخَرَف دون حمَّی، يعاني خلاله المريض الخوف والحزن دون سبب واضح".
ويمكن تلخيص تلك الكلمات في بعض السطور بأن الاكتئاب مشاعر مصحوبة بالقلق والحزن من وجهة نظر صاحبها.
ولكن.. هل كل الأحزان تؤدي إلى الاكتئاب؟
بعض الآراء تقول إن من يُصاب بالاكتئاب هم الأشخاص مرهفو الحس، وأصحاب القلوب الضعيفة أو الرقيقة للغاية.. فأغلب الفنانين -علی سبيل المثال- أصابهم الاكتئاب وحرمهم من متعة النجاح والشهرة ومجد الموهبة. وعلی سبيل المثال، فإن عظمة لوحات فان غوخ قد خطَّها وهو مصاب بالاكتئاب والوسواس القهري؛ دويستوفيسكي أرقه الاكتئاب طويلاً؛ فرجينيا وولف انتحرت بسببه؛ كافكا رائد مدرسة الكتابة الكابوسية تألم طوال حياته من ألم الاكتئاب؛ والمطربة الفرنسية-المصرية داليدا أنهت حياته من فرط شعورها بالألم بسبب الاكتئاب..
كل هذا ربما يفسر مقولة روبرت برتون: "يتميز الكئيبون دون غيرهم بالذكاء وسرعة البديهة".
الكثيرون عانوا وتألموا بسبب مرض عضال عجز الكثيرون عن الشفاء منه.. تقول دراسات إن شخصاً واحداً من 10 أشخاص يصاب بالاكتئاب، وتتضاعف النسبة عند النساء..
كل المؤشرات تشير إلى أن الاكتئاب قد يكون تغيّراً بيولوجياً في جسم الإنسان، أو اضطرابات بكيمياء المخ، أو ربما شعوراً غير مادي يصيب الشخص ويستحوذ عليه بأكمله، ويجعله عاجزاً عن أداء أي شيء..
هل الاكتئاب سببه البعد عن الله؟
العامة دوماً لا يستطيعون فهم أن مريض الاكتئاب ليس مقصوداً به الشخص البعيد عن الله أو المتهرب من أداء الطقوس حتى يبتليه الله بذلك المرض.. فهناك الكثير من رجال الدين الذين أصابهم الاكتئاب وعانوه طوال حياتهم، وبعضهم قد ساعدتهم شجاعتهم الشخصية في التصريح بذلك. وعلی سبيل المثال، فإن أحد رهبان الكنسية بعصور الظلام في أوروبا أقر بأنه مُصاب بالاكتئاب رغم أنه يتقرب ويتضرع إلى الله في كل وقت، وقد كان تفسيره هو أنه يمكن أن تُصيب الرتابة أو الاعتياد -حتی علی العبادة- بعض الملل المؤدي إلى الاكتئاب.
ورغم ذلك، فإن اليونانيين في العصور القديمة قالوا إن الاكتئاب مرض عقلي تُنزِّله الآلهة على الأشرار من الناس، وقد اعتقد المسيحيون الأوائل أن الشيطان يسبب المرض العقلي لاختبار إيمان المريض..
كلها أسباب قد تختلف أو تتفق عليها، ولكن من المؤكد أن علّة الاكتئاب قاسية جداً.
الاكتئاب حالة قاسية، ولكنها تختلف تماماً عن الحزن أو الضغوط اليومية العادية، ربما قد تؤدي الأحزان إلی اكتئاب سريري أو خفيف، ولكن من المؤكد أن شعور الإنسان بالاكتئاب شيء يعجز غير المصابين به عن تصوُّره..
يتشارك مرضى الاكتئاب في عدة صفات، وتختلف بمدی وقوعهم بين براثن المرض من شخصٍ لآخر، حسب الحالة الصحية والاجتماعية ومسببات الاكتئاب وغيرها، ولكن من أصعب مسببات الاكتئاب شعور الحزن، الفقد، الألم، الشعور بالذنب تجاه المحيطين، العجز عن الانغماس بالمجتمع، والجسدنة؛ وهي تجسيد علّة الاكتئاب النفسية إلى أمراض عضوية مثل آلام المفاصل والصداع المزمن والأرق.
وقد أجمع الكثيرون علی أن الفقد من أنشط الأسباب وأكثرها صعوبة وأهم محفز للاكتئاب، وقد تختلف وتتفاوت درجة الفقد حسب الشخص المفقود مثل فقد أحد أولياء الأمر، الأخ/ت، الصديق/ة، الحبيب/ة، أو الزوج/ة..
وحينما يستمر الشعور بمرارة الفقد يتحول الشخص إلى اضطراب القلق، الناتج عن فقد أحد المقربين؛ ومن ثم يتحول إلى اكتئاب؛ خفيف أو سريري/حاد.
"عقدة الذنب تجاه المقربين وتأثيرها على مريض الاكتئاب"
يظن بعض المقربين من مريض الاكتئاب أن الأمر مُبالغ فيه بعض الشيء بالنسبة لمدى ألم وتأثُّر المريض بأحزانه. قد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى عجز المكتئب عن النهوض من السرير في حالات الاكتئاب الموسمي أو الحاد.
ومن هنا، ينبع شعور المريض بالذنب، وخصوصاً بأن المريض غالباً ما يكون من الشخصيات مرهفة الحس وأصحاب الذوق العالي. فيزداد شعور النفور ورفض المحيطين من المريض رغم شعوره بالذنب تجاههم، وأنه عبء عليهم، وأنه عاجز عن خوض الحياة وعيونهم تتفحصه بوجه الخصوص.
"انتحار المكتئبين!"
يقْدم الكثيرون ممن يعانون الاكتئاب على الانتحار؛ لإنهاء الألم والشعور بالعجز. وتشير الدراسات إلى أن من بين 100 محاولة انتحار، تنجح محاولة واحدة فقط، ما يعني إقدام الملايين على الانتحار ثانوياً، فترتفع نسبة الانتحار بين المراهقين (من 20 إلی 30 عاماً)، وفي بعض الدول تكون النسبة العُليا بين النساء وربّات البيوت..
ولعل الاكتئاب ليس السبب الوحيد لإقدام بعض الناس على إنهاء حياتهم، ولكنه محفز أساسي للفعل، حيث يتوق المريض إلى إنهاء الألم والشعور بالعجز والحزن المستمر، والتخلص من الشعور بالذنب المصحوب بنظرات الشفقة أو التنمر من الآخرين..
يقول سيغموند فرويد في كتابه "الحداد والكآبة": "إن حب الأنا هو الدافع البدائي الأول للبقاء على قيد الحياة، وهو دافع قوي جداً تنبع منه الشهوة الجنسية الجارفة للمحافظة على النوع، التي تظهر جلية إذا ظهر ما يهدد حياة الفرد؛ ولذلك لا يمكننا أن نفهم كيف تسعى الأنا لتدمير ذاتها. نحن نعلم منذ مدة طويلة أن فكرة الانتحار التي قد تحاور الفرد تأتي من رغبته في إيذاء غيره دون أن يتاح له ذلك، فترتد الرغبة في إيذاء ذاته، لكننا لا نعلم حتى الآن ماهية العوامل التي قد تجتمع وتدفع الفرد إلی تنفيذ هذه الأفكار بالفعل، لكن تحليل الكآبة الآن يُظهر أن الأنا لا يمكن أن تقتل نفسها إلا إذا تحولت إلى هدف للطاقة العدائية المرتدة إليها من الموضوع الآخر في العالم الخارجي والذي كان هدفاً لطاقة الأنا في السابق، وخلال هذا الارتداد يكتسب الموضوع طاقة أكبر من طاقة الأنا ذاتها فيتمكن من السيطرة عليها، ويتضح ذلك في حالتين متناقضتين تماماً: حالة الحب الجارف وحالة الانتحار، وإن كان تعبير الأنا مختلفاً في الحالتين".
يوضح فرويد أن الإقدام على الانتحار قد يكون نابعاً من رغبة الشخص في الانتقام من غيره مثل المحيطين به أو المتسببين في حالة الاكتئاب، فقد يكون هذا دافعاً قوياً بما يكفي ليطغى على غريزة البقاء وينفي وجودها وصولاً لتلك المرحلة، فالأنا -كما يوضح فرويد- هي نفْس الإنسان المخلوق بغريزة تجعله عاجزاً عن اتخاذ مثل تلك الخطوة، ولكن في مرحلة ما قد تكون الرغبة والأهداف والأسباب أقوی منها..
كيف تتخلص من الاكتئاب؟
من خلال كل هذا الوصف -الذي يبدو دقيقاً- لمرض الاكتئاب، يقول الدكتور أحمد خالد توفيق إن" الحل الوحيد للمشاكل النفسية هو: لا تكن عاطلاً.. لا تكن وحيداً".
هذا وعن تجربة، قد يكون حلاً جيداً، بسيطاً يخفف عنّا الكثير، فمن خلال القراءة، والكتابة، والعمل، وممارسة الرياضة والهوايات المفضلة، قد يتفادى الفرد منّا مرارة الاكتئاب أو التخفيف من مقدار ألمه. دون ذلك، فهناك دوامة الأطباء والمعالجين النفسيين ومضادات الاكتئاب والكثير من المعاناة حتی نهاية الألم..
-المصادر:
سيغموند فرويد: الحداد والكآبة.
لويس ولبرت: الحزن الخبيث "تشريح الاكتئاب"
روبرت برتون: تشريح الكآبة
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.