قامت مُنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) بإنجاز دراسةٍ كلَ 3 سنوات، بهدف تقييم الأنظمة التعليمية في جميع دول العالم، عن طريق إخضاع التلاميذ الذين تصل أعمارهم إلى 15 سنة لاختبارات دراسية، في إطار ما يسمى "البرنامج الدولي لتقييم الطلبة" (PISA)، وذلك بهدف تصنيف أفضل التلاميذ في العالم حسب الدول التي ينتمون إليها. وعلى هذا الأساس، فإن آخر النتائج المنشورة لحد الساعة تعود لاختبارات سنة 2012 التي نُشرت في سنة 2013، وأظهرت شنغهاي (الصين) على رأس القائمة، تليها هونغ كونغ (الصين دائماً)، ثم سنغافورة في المرتبة الثالثة، علماً أن اختبارات PISA تضم القراءة، والرياضيات والعلوم.
سنحاول هنا أن نكتشف أسرار التعليم في شنغهاي (العاصمة الاقتصادية للصين)، المدينة التي شاركت لأول مرة في اختبارات PISA سنة 2009، وصنعت المفاجأة الكبرى بأن احتلت أيضاً رأس القائمة، مُتفوقةً بذلك على دول معروفة بنظامها التعليمي الممتاز، مثل فنلندا.
قام فريق مجلة "Envoyé Spécial" -التي تنشرها قناة France2 أسبوعياً- بزيارة بعض المؤسسات التعليمية المختلفة في شنغهاي، العاصمة الاقتصادية الصينية؛ لكي تراقب عن قُرب كيف تسير حياة التلاميذ هناك، وما نوع الدروس التي يتلقونها، بهدف فهم سر تفوُّق تلاميذها على مستوى العالم، وقد سمح لي الشريط التلفازي الذي أنتجته القناة بفهم الاختلاف الكبير بين هذا النظام وباقي الأنظمة التعليمية، كما أجاب عن بعض التساؤلات الأخرى.
في شنغهاي، جميع المؤسسات التعليمية، سواء كانت حكومية أو خصوصية، ليس لديها سوى هدف واحد: أن تصبح الأفضل في العالم.
السلوك والتعليم وجهان لعُملة واحدة
في المؤسسة التعليمية الإعدادية "غان كوان"، يوم الثلاثاء صباحاً مخصص لحصة اللغة الألمانية، ولكن فريق التصوير لم يجد في البداية أستاذاً داخل قاعة الدرس! في الواقع، يقوم تلميذ عُمره 13 سنة بالقيام بدور المعلم، يأخذ كتاب اللغة الألمانية ويبدأ في قراءة الكلمات قبل أن يرددها البقية وراءه. ويبدو أن الجميع يأخذ الأمر بجدية تامة دون وجود شخص بالغ لتأطير الدرس، يستمر التلميذ في دور المعلم 30 دقيقة، قبل أن يأتي المُعلم الحقيقي للتأطير فقط وفرض بعض أشكال الاحترام والسلوك التي يعتبرها مهمة جداً في التعليم الصيني، ويتحدث في المُجمل 20 دقيقة، أما بقية الوقت فإن التلميذ هو المُعلم.
برامج دراسية مكثفة جداً
في إحدى الثانويات العمومية شرق شنغهاي، يدخل التلاميذ للمؤسسة في السابعة وبضع دقائق صباحاً، وهم يعلمون أن اليوم سيكون حافلاً بالأعمال والجهود الشاقة؛ لأنه في صباح واحد قد يصل عدد المواد المختلفة التي يتلقونها إلى 5 مواد دون فاصل طويل للراحة بين فصل وآخر؛ لأن الفترة الوحيدة للاسترخاء بين الفصول هي دقيقتان داخل قاعة الدرس، يمارسون فيها تدليكاً للعينين ومحيط الأنف على إيقاعات موسيقية هادئة تسمح بالاسترخاء قبل البدء في فصل جديد.
موعد تناول الغداء هو الثانية عشرة تحديداً، ويستمر 15 دقيقة فقط قبل أن يعود التلاميذ أدراجهم لمقاعد الدراسة، وهذه المرة بسبب الواجبات؛ لأن النظام التعليمي هناك يرتكز أساساً على التكرار وحل التمارين الكثيرة جداً، وكل هذا يقومون بفعله وحدهم في قاعة أمام شاشة كبيرة تحتوي على الإرشادات، في غياب الأستاذ مدة تصل إلى 3 ساعات على الأقل يومياً!
بعد الانتهاء من الفصول الدراسية على الساعة الخامسة مساءً، تبدأ رحلة أخرى، وهي استغلال بعض الوقت للالتحاق بقاعة الأنشطة اللغوية التي يختارها كل تلميذ قبل الانتقال إلى الثانوية والتي يُديرها أستاذ قادم من دولة أخرى، والشرط الوحيد في هذه الأنشطة هو أن يتم الحديث باللغة المخصصة لها فقط. وهكذا يمكن للتلاميذ أن يُمارسوا اللغات وليس فقط يتعلمونها نظرياً.
وصف أستاذ الأنشطة اللغوية الإنكليزية، القادم من إنكلترا، مستوى الرياضيات التي يتم تدريسها هناك، بأنه عالٍ جداً، لدرجة أن جميع التلاميذ الذين يزورون تلك الثانوية من بلدان أخرى يقولون إن ذلك المستوى جامعي وليس ثانوياً، كما أنه أكد أنه لو خضع تلاميذ من دولة أخرى للنظام التعليمي نفسه فإنهم لن يتحملوه طويلاً، وسوف يلجأون إلى الإضرابات كي يتم تغييره!
بعد 11 ساعة من الدراسة في العمل الجاد، تبقى 3 ساعات ليلية للدراسة الإجبارية في قاعة مخصصة للتلاميذ لكي يدرسوا فيها بِحُرية، دون أستاذ أيضاً، إلى حدود التاسعة ليلاً، حيث يحين موعد النوم، ويتم إطفاء الأضواء في مراكز الثانوية. علماً أن معظم التلاميذ يتركون عائلاتهم بمدن أخرى ويعيشون في السكن الخاص بالثانوية في شنغهاي.
تتدخل الثانوية في الحياة الشخصية للتلاميذ أيضاً، حيث يُمنع عليهم منعاً كلياً الدخول في علاقات مع الجنس الآخر، وإذا حدث أن اكتشفت المؤسسة أمراً كهذا، فإنهم يقومون بإنهائها بأية طريقة.
الوطنية قبل السعادة الشخصية، والأمل في مستقبل أفضل
رغم كل هذا التشدد في النظام التعليمي، ورغم وعي التلاميذ بأنهم كالسجناء في قفص واحد، فإنهم يكررون الفكرة نفسها التي يبدون مُقتنعين بها لدرجة كبيرة، عندما سُئل بعض تلاميذ السنة الأولى الثانوية هل يعجبهم النظام التعليمي في بلادهم، رغم أنه قاسٍ جداً، قالوا:
"البلد أهم بكثير من الأفراد، ما يهم هو أن نعمل بلا توقف لكي يصبح أفضل في المستقبل، نحن نؤمن بأن حياتنا ستتغير في المستقبل، وسنملك الكثير من الثروات، والموارد، والحرية، سنكون قد صنعنا البلد الذي نحلم به، وذلك فقط إن قمنا بهذه الجهود الآن".
الانتحار: ثمنُ التفوق
مما لا يمكن إنكاره أن هذا الضغط التعليمي يؤدي بالبعض إلى وضع حدٍّ لحياتهم، حين يجدون أنفسهم غير قادرين على اللحاق برَكب التلاميذ المتفوقين جداً؛ ومن ثم يعلمون أنه لا مكان لهم في أفضل الجامعات بالعالم.
يُعتبر الانتحار السبب الأول للوفاة بين الشباب من سن 15 إلى 24 سنة، ويعتبر الجميع موضوع الانتحار من التابوهات التي لا يتحدثون عنها رغم وعيهم الشديد بمُبالغات النظام التعليمي.
ماذا يفعل الطفل قبل المدرسة؟
في شنغهاي، لا وجود لمؤسسة تعليمية قبل المرحلة الابتدائية، يهتم الآباء بتعليم أبنائهم من سن الثالثة إلى السادسة بطريقتهم الخاصة، هناك من يسجل أبناءه في مدارس الموسيقى، حيث يتعلمون النوتات الموسيقية والعزف، إلى جانب تسجيلهم في مدارس أخرى لتعلُّم الرسم، والرقص، والفنون البلاستيكية، والسباحة.
كل هذا يتعلمه طفل منذ الثالثة من عمره، ورغم أنه برنامج صعب للغاية ومُكثف أيضاً، فإن الآباء سعداء لذلك، ويعترفون بقولهم إن هذا اختيار أطفالهم وليس إجبارياً.
النظام التعليمي الخصوصي
في شنغهاي، والصين عموماً، لا يوجد فقط ذلك النوع من التعليم العمومي المكثف، هناك أيضاً نموذج آخر هو مؤسسات التعليم الخصوصي الثانوية الباهظة، في هذه الثانويات لا يتم اعتماد النظام التعليمي الصيني كما هو؛ بل عكس ذلك، يتم تدريس التلاميذ وفق المناهج التعليمية الإنكليزية، والهدف الرئيسي من هذه المؤسسات هو إعداد التلاميذ لدخول أفضل الجامعات العالمية مثل Harvard وYale، يتم تدريس التلاميذ هناك مواد غير موجودة في النظام الصيني التقليدي، من طرف أساتذة أجانب، مثل حصص التجارب العلمية التطبيقية في الكيمياء والفيزياء، كما يتم التركيز على اللغة الإنكليزية وعلى برامج الجامعات الأميركية.
طموح التلاميذ الذين يلتحقون بهذه الثانويات كبير جداً، يقول التلميذ "بين" (17 سنة)، الذي يحلم بدخول معهد MIT الشهير منذ أن كان عمره 11 سنة، من ثانوية GuanGhua الشهيرة التي تتطلب 17000 يورو سنوياً لدخولها: "أنا أُعدُّ نفسي لدخول أفضل الجامعات الأميركية، هذا ما يطلبونه، يجب أن تكون مستقلاً، وتملك رؤية ناقدة لما تقرأه وللمعررفة التي تتلقاها".
وبخصوص سبب رغبته في الهجرة إلى أميركا، يجيب "بين": "هنا في الصين بعض الأصوات لا يمكننا سماعها، أنا أريد سماعها، أريد أن أعرف كيف هو العالم في حقيقته، أعرف أنه لا يتناسب مع ما نراه في التلفاز، أو الراديو هنا، ولا أريد أن يخبروني كيف هو العالم في الخارج، أريد أن أراه بنفسي".
خلاصة
كانت هذه صورة مقربة عما يحدث في مؤسسات التعليم التي صنعت أفضل تلاميذ العالم، بمجال اللغات والعلوم خصوصاً؛ لأنه فيما يخص التاريخ والسياسة مثلاً، فإن التلاميذ في شنغهاي لا يعرفون تقريباً أي شيء.
رغم كل هذا النجاح الذي يمكن أن تسعى إليه المؤسسات التعليمية في شنغهاي، يمكننا أن نتساءل عما إذا كان فعلاً الطريقة الوحيدة للتفوق، وهل يمكن مثلاً أن يتم إحداث نوع من التوازن لخلق نظام تعليمي آخر يدفع التلاميذ نحو التوفق دون أن ينسى الجانب الإنساني منهم، وبالأخص حريتهم؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.